تذكر بعض المصادر الفلسطينية، أنّ الفلسطينيين خسروا في الشهور الستة الأولى من الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، قبل توقفها المؤقت، 3 آلاف شهيد من المجاهدين، و8 آلاف بين جريح وشهيد من المدنيين. المصادر ذاتها، تذكر أنّ خسائر الفلسطينيين بلغت مع انتهاء الثورة، 8 آلاف شهيد من المجاهدين، و18 ألف جريح منهم، و15 ألف شهيد وجريح من المدنيين.
وقد شمل قمع الانتداب البريطاني للثورة نسف أحياء كاملة في المدن مثل اللد وجنين، والقرى (كان هناك قرار بريطاني بنسف مدينة يافا بالكامل بذريعة الرغبة في إعادة بنائها)، ومن القرى التي نسفت أحياء منها: كوكب الهوا وشعب والبروة وطمرة في شمالي فلسطين، وبلعا وفولة وعصيرة الشمالية وطلوزة وزيتا وبرقة وبيت دجن ودير شرف في وسط فلسطين، والقباب في القدس، والدوايمة والشيوخ وحلحول في الخليل، وذلك علاوة على اعتقال الآلاف، وإحراق المزارع، وقطع الأشجار، وإتلاف المؤن، وإهلاك الماشية والدواجن، ونهب البيوت والمحال وممتلكات الفلسطينيين. وبلغ الأمر بالإنجليز إعدام من يجدون في حوزته ولو طلقة رصاص واحدة، وبالفعل أُعدم ثلاثة شبان في طولكرم لمجرد امتلاكهم بضع طلقات من الرصاص.
يمكن تخيّل الإنهاك الذي أصاب المجتمع الفلسطيني (والذي هو مجتمع صغير أصلا قليل العدد) مع نهاية الثورة؛ وبحيث يمكن القول، وبقطع النظر عن الأرقام الدقيقة بخصوص خسائر الفلسطينيين، إنّ بريطانيا أوقعت نكبة هائلة بالفلسطينيين مع العام 1939 مهّدت للنكبة الكبرى عام 1948. ولا يمكن القول إنّ هذه الثورة انتصرت، أو أفضت إلى انتهاء الانتداب البريطاني، أو قطعت الطريق على الاستعمار الصهيوني، ومع أنّنا نملك اليوم الترف الكامل لإعادة التقييم التاريخيّ لثورة الفلسطينيين تلك، ونقد الكثير ممّا رافقها من ممارسات وخطابات، فلا يمكن القول إنّ الفلسطينيين أخطؤوا في ثورتهم، أو كان عليهم الامتناع عنها، أو كان عليهم ألا يكونوا شعبا حيّا، وأن يختلفوا عن كلّ أمّة قاومت مستعمريها؛ بألا يقاوموا هم مستعمريهم.
ومن نافلة القولّ إنّ بعض من يبدي شفقة زائفة على الثمن الفادح المدفوع في قطاع غزّة اليوم، كان هو ذاته من يعيّر الفلسطينيين أنّ ما دفعوه أقلّ مما دفعته أمم وشعوب أخرى. (لا نقول إنّ كل من يحصر خطابه في الثمن المدفوع اليوم هو كذلك، ولذلك قلنا "بعض").
كان للفلسطينيين العديد من المحطّات الكفاحية المسلّحة والشعبية الأقرب للطابع السلمي أو للعصيان المدني، وقاتلوا من داخل بلادهم ومن خارجها، ولكنهم لم يحرّروا بلادهم ولم يحقّقوا انتصارهم ولم يحرزوا إنجازا سياسيّا واضحا لا يحتمل الالتباس، لكن هل يمكن القول إنّ الشعب الفلسطيني كان مخطئا في نضالاته تلك، لأنّ نتيجتها كانت دائما قدرة العدوّ على احتوائها، وكسرها؟ وهل مقاومات الشعوب سوى سلسلة من حلقات الإرادة المتجددة وصولا للحظة الانتصار، التي لا بدّ وأن تُسبَق دائما بالعديد من الانكسارات؟! هل ثمّة مقاومة استعمار في التاريخ شذّت عن هذه الحقيقة؟!
سيُقال بالتأكيد من بعض من لا يكاد يقول شيئا في هذا الوقت سوى نقد عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ إنّ الموقف ليس من مبدأ النضال ولا من مبدأ المقاومة المسلحة حتى، ولكن من الحسابات الخاطئة التي تقف خلف تلك العملية، لا سيما وأنّ الثمن المدفوع بعدها من الشعب الفلسطيني المظلوم في غزّة خسارة ضخمة لها مفاعيل عميقة لصالح العدوّ، ولكن بعض من يتذرّع بذلك، هو يقيّم الأمر من جهة النصر والهزيمة، فما دمنا قد هُزمنا فلا بدّ وأنّ القرار كان خاطئا، وذلك لأنّ نتيجة العملية، لو كانت بنحو مختلف، أي لو استدعت تداعيات أكثر خلخلة للعدو وأكثر إفادة للمقاومة والشعب الفلسطيني، لربما نفس ذلك البعض لم يمنح الخسائر الفلسطينية ما تستحقه من الاعتبار! ومثل هذا التصوّر حتما يعود على النضالات كلّها بالإدانة لأنّها لم تُنجِز انتصارا للفلسطينيين (هذا والحرب ما تزال قائمة!).
ليست قضيتنا هي رفض الوقوف النقدي مع عملية السابع من أكتوبر، مع أنّ العملية صارت في ذمّة التاريخ، وسؤال الوقت الآن هو "ما العمل؟"، إذ نقد عملية السابع من أكتوبر بالإلحاح الذي يبدو من بعضهم في هذا التوقيت بالذات، لا يفعل شيئا أكثر من التشويش على إمكانات الإجابة على "ما العمل؟"، دون أن يطرح أيّ مثقف منشغل فقط بنقد عملية السابع من أكتوبر وأصحابها؛ على نفسه سؤالا ناقدا حول عجزه عن مقاربة الحدث القائم الآن ببعديه (الملحمي من جهة المقاومة الأسطورية، والمأساوي من جهة الكارثة الواقعة على الشعب الفلسطيني في غزّة)، من أيّ زاوية أخرى، ودون أن يبيّن الفائدة المرجوّة من دورانه حول الفكرة ذاتها، التي حُفِظت عنه.
بالتأكيد نحن لا نناقش هنا من ينتقد السابع من أكتوبر من موقع العداء للشعب الفلسطيني أو العداء لحركة حماس أو الانحياز للعدوّ، وإنّما ذلك الذي تتحكّم فيه مشاعر صادقة تجاه الكارثة الكبرى التي وقعت بالفلسطينيين في غزّة وما يمكن أن ينبني عليها من إنجاز إسرائيليّ لاحق، ولكنّه والحالة هذه لا يقول شيئا أكثر ممّا هو معروف، سوى مبالغته في اتهام مخالفيه أنّهم لا يقيمون وزنا للكارثة الإنسانية الحاصلة. وهذا اتهام أخلاقيّ ظالم، لأنّه بدوره يتجاهل زوايا النظر المتعددة للحرب، ويتجاهل أنّ التقدير الحقيقي للخسارة العظيمة في غزّة لا يكون فقط بمجرد وصفها أو تحميل عملية السابع من أكتوبر المسؤولية عنها، بل من صور تقدير تلك الخسارة هي نصرة كلّ من وقعت عليه الإبادة والحرب الإسرائيلية بما في ذلك أصحاب السابع من أكتوبر، فبالنظر الأخلاقي الصرف، هل تكون نصرة الفلسطينيين بشتم بعض من تقع عليهم الإبادة، وعزل ذلك البعض عن بقية الشعب المظلوم؟!
المشكلة هنا، وبقطع النظر عن سؤال التوقيت وقيمة النقد الراهن لحدث صار في ذمّة التاريخ وباتت المسؤولية الواجبة الآن في محاولة المساهمة في تحسين الموقف لصالح الفلسطينيين، هي في كون النقد يتحوّل إلى إدانة، فنقد الحسابات السياسية التي وقفت خلف السابع من أكتوبر شيء، وإدانة أصحاب السابع من أكتوبر شيء آخر، لا سيما مع تحوّل الإدانة إلى موقف ضمنيّ يحرم هؤلاء من حقهم في التعاطف؛ وهم الذين يقاومون الإبادة الواقعة عليهم وعلى بقية أبناء شعبهم.
البعض يفعل ذلك بنحو صريح حينما يجعل بعض من تقع عليه الإبادة مسؤولا عن الإبادة الواقعة على البقية من شعبه من الساخطين المكلومين، وهو فعل تحريضيّ رخيص، مارسه نتنياهو وغالانت صراحة، ومن غير المفهوم أن تكون نصرة الملاحقين بالإبادة بالاتفاق مع نتنياهو وغالانت في تحريضهم أهل غزّة على المقاومين من بينهم!
وينبغي أن تكون هذه المسألة واضحة (أي عدم تحويل النقد إلى إدانة)، وبما يغني عن تكرار الكثير ممّا قلناه عن كون الإبادة عقيدة إسرائيلية لا يتحمّل المسؤولية عنها إلا الإسرائيليون، وكذلك ينبغي أن تكون الأمثلة التاريخية من الممارسة الإسرائيلية نفسها كافية لتبيان أن مستويات العنف الاستعماري متعلقة بإرادة المستعمِر لا بمن يقاومه، وإلا لما قاوم أحد مستعمره، لأنّ المستعمر، أيّ مستعمر، يعمل دائما على جعل كلفة مقاومته أثقل على الشعب الذي يقاومه من كلفة وجود الاستعمار واستمراره.
القضية هنا أنّ النقد الذي يدين المقاوم، لا الذي يراجع حساباته (وبقطع النظر عن مسألة التوقيت)، ويربط عنف العدوّ حتميّا بفعل المقاوم؛ هو يفترض حقيقة أخرى للعدوّ غير عقيدة الإبادة، وغير سياسة رفع كلفة المقاومة، وكما أنّه يبرّئ العدو من هذه العقيدة، فإنّ مآل تصوّره هذا هو الكفّ عن مقاومة العدوّ.