تأليف: إياد الرفاعي - القدس المحتلة
هو لا ينكر أن رفض الاحتلال منحه تصريحًا لزيارة القدس والأراضي المحتلة، لم يزعجه، فهو يعترف بذلك صراحةً، دونما خجل، الا أنه في الجانب المقابل، يعرف الطريق جيدًا نحو فلسطين، ونحو القدس تحديدًا.
لقد زار القدس عدة مرات، دونما أن يحتاج لتصريح من هذا الاحتلال اللعين، فالأرض فتحت له جوفها مرة، وتسرب فيها كما سيول الأمطار، ليهطل ذات رمضان على المسجد الأقصى، فيروي الأخير ظمأ الأول، وحينًا حملته الرياح وقذفت به من على جدارٍ، بشكله كجلمودٍ صخرٍ، بينما في باطنه هواء، ليحط بعدها بين أسوار القدس القديمة، كما تحط الريشة في كف اليد بعد نسمة عابرة.
أما المرة التي لم ولن يسمح لنفسه بنسيانها أو ذكرها أمام أحد على حدٍ سواء، -وهو بالمناسبة أخبرني بسره ظنًا منه، أني كاتم أسرار، ولم يعلم بأن هوايتي منذ الطفولة، أن أفشي أسرار كل من أودعها في أذني-، عندما زار مدينة القدس مكبل اليدين ومعصوب العينين.
دخلها دونما أن تبصرها عيناه، لكن قلبه لم يخطئها يومًا، سمع بكاء قلبها، واشتم رائحة الملح من دموعها، واخترقت مسامات جلده أشعة قبتها الصفراء التي تسر الناظرين، لكن لم يسر يومها، وهو الذي اعتاد أن يدخل المدينة مرفوع الرأس ينظر بعيون كل الغرباء، قائلًا لهم "هذه فتاتي الشقراء، التي أحلم بها كل ليلة، أخرجوا منها صاغرين"، يدخلها هذه المرة دونما عينان، دونما اسم، دونما قلب.
في سيارة عسكرية محاطٌ بروائح غريبة عن المكان والزمان، قلبه لم يغادر القرية، ظل بين يدي محبوبته، بينما صوب إلى مكان قلبه، فوهة بندقية إم16 أمريكية الصنع، بيد جندي لا يعرف له أب، واستبدل أسمه برقم، وبدلًا من دخوله أرض الميعاد وبوابة السماء، دخل بوابة مركز التحقيق، متجهين به نحو زنزانة باردة، تصادر الأحلام وتمنح الأوهام، هكذا دخل يومها للقدس.
اليوم استلمت تصريح دخولي للقدس، ذهبت إلى التلة المشرفة على المستوطنة القريبة من قريتنا، حيثما اعتدت أن ألتقي وإياه، وجدته على الموعد ينتظر، عيناه تخبرانني كلامًا لا يشبه كلامه الأخير، خشيت أن أسأله عما يجول بخاطره، فيؤكد لي شكي وظني، وكيف لي أن أخطئ الظن وأنا الذي أعرفه كما أعرفني.
ابتلعت ما تبقى في من قوة، بعدنا استنفذ الصيام الجزء الأكبر منها، وعضضت على صوتي لأمنعه من الإرتجاف، وسألته: كيف ستدخل للقدس هذه المرة؟، كما توقعت، أجابني بنصف ابتسامة، وقام من مكانه فوق صخرتنا المعتادة، حمل حقيبته على ظهره ومضا..
كانت هذه رواية طبق الأصل عما حدث لصديقي أحمد العربي عام 2015، أستذكرها اليوم، بعد خمسة عشرة عامًا، وأنا أجلس على شرفة فندق التحرير، التي تطل على أسطح منازل القدس القديمة، والمسجد الأقصى تتوسطه القبة الشقراء.
بعد تلك المحادثة بيني وبين أحمد، والتي كانت الأخيرة، -إن لم أعتبر رسالته التي تركها لي محادثة العمر بأكمله-، كنت مضطرًا أن أذهب لأمه كل يوم ثلاثاء، كما اعتادت أن أفعل مع ابنها، من كل أسبوع، الفارق الوحيد أني أصبحت أتكلم عن أحمد، لا معه.
** ملاحظة: أحمد لم يفجر نفسه بالحاجز الذي يقف عليه جندي أرعن يمنعنا من الدخول لعاصمتنا فقط، أحمد فجر الخوف الذي كان يسكن قلوب الآلاف من شباب فلسطين حينها، ليكون جسده الشرارة التي اشتعلت إثرها حرب التحرير.