خلال الأيام الأخيرة، عاشت "إسرائيل" حالة قلق شديدة جرّاء تزايد المقاطعة، لدرجة أن شركة "أورانج" الفرنسية أوقفت عقدها مع شركة "بارتنر" الإسرائيلية؛ ما أثار حملة إسرائيلية كبرى شاركت فيها الحكومة وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، مستندين إلى الضغط على الحكومة الفرنسية التي تملك 25% من أسهم "أورانج"، ما أدى في النهاية إلى تراجع الشركة عن قرارها بوقف عملها في "إسرائيل"، لكن القضية لم تنته والمعركة ستستمر حتى تتراجع "أورانج" عن قرارها الأخير. وخلال الأسبوع الماضي، قابل رؤساء الجامعات الإسرائيلية الرئيس الإسرائيلي، وقالوا له "إن المقاطعة الأكاديمية للجامعات الإسرائيلية وصلت مرحلة خطيرة وبمقدور إسرائيل إجهاضها إذا تحركت فورًا"، وحذروا الحكومة إذا لم تتحرك بحملة مضادة قبل فوات الأوان فلن تستطيع الجامعات والأكاديميون الإسرائيليون العمل أو التعاون مع الجامعات والأكاديميين على امتداد العالم . كما خصصت الحكومة الإسرائيلية اجتماعًا لبحث المقاطعة وكيفية مواجهتها، وقررت مضاعفة الأموال المرصودة لمكافحتها، إضافة إلى قرارها بتنظيم حملة تبرعات للحصول على تمويل من أصدقاء "إسرائيل" يصل على الأقل إلى ما يساوي ما رصدته الموازنة الإسرائيلية. كما يستعد الكنيست لمناقشة الموضوع مرة أخرى. وتضع الحكومة الإسرائيلية المقاطعة على نفس مستوى أهمية وخطورة "الاٍرهاب"، وتركز في تصديها لها على أنها أولًا شكل من أشكال معاداة السامية التي تستهدف "دولة اليهود"، وهي امتداد لحملة معاداة السامية التي استهدفت اليهود، ووصلت ذروتها في المذبحة التي نفذتها ألمانيا الهتلرية ضد الملايين منهم، وهذا ادعاء باطل وضعيف لأن هناك من قادة المقاطعة وأعضائها ساميّين، ومن ضمنهم يهود. وثانيًا، تركز الحملة المضادة الإسرائيلية على أن المقاطعة تستهدف نزع الشرعية عن إسرائيل وتدميرها ومحوها من الوجود. تنبع أهمية المقاطعة من أنها تركز على نقطة ضعف "إسرائيل"، التي تتصور أو تصوّر أنها نقطة قوتها، وهي أن "إسرائيل" واحة الحضارة والديمقراطية، وأنها تتمتع بالقيم الأخلاقية العالية، وتحترم حقوق الإنسان وحرياته، وتلتزم بالقانون الدولي والشرعية الدولية، مع أن كل ما تقوم به من إجرام ومذابح وحصار وتقطيع للأوصال وقتل للأطفال وتدمير للمنازل والمؤسسات والكنائس والمساجد والمؤسسات الدولية ومن تمييز عنصري اعتداءات على البشر والحجر ومخالفات للقانون والقيم، وليس كما تدعي بأنها تدافع عن نفسها. نقطة قوة الكفاح الفلسطيني أنه يستند إلى قضية عادلة متفوقة أخلاقيًا، وإلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، بالرغم من أنها لا تتضمن سوى الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، لذلك المقاطعة شكل من أشكال المقاومة التي تضغط بشدة على نقطة الضعف الإسرائيلية، ويمكن أن تحقق نجاحات نوعية تغيّر الموقف كله إذا تم التعامل معها كأداة من أدوات الإستراتيجية الفلسطينية الجديدة طويلة الأمد، وليست مجرد وسيلة تكتيكية ترمي إلى الضغط من أجل تحسين شروط حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، أو تحسين شروط المفاوضات التي عجزت وستعجز عن إنهاء الاحتلال إذا لم تستند إلى أوراق قوة يحملها المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات. ووصل بإسرائيل المطاف إلى سن عشرات القوانين العنصرية في مسلسل لا ينتهي، ما يجعلها أكثر وأكثر نظامًا معاديًا للإنسانية وأسوأ من نظام التمييز العنصري البائد في جنوب أفريقيا. ما يجعل قادة "إسرائيل" يشعرون بالقلق أنهم يخشون من تزايد مضطرد في حملة المقاطعة، وكونها مرشحة لتحقيق المزيد من النجاحات في ظل التحول الكبير في اتجاهات الرأي العام الدولي، خصوصًا في أوروبا والولايات المتحدة. فإسرائيل ترى أنها خسرت أوروبا وخسرت الجامعات الأميركية، وتخشى أن هذا التحول في الرأي العام سيصل عاجلًا أو آجلًا إلى حدوث تحول مماثل لدى الحكومات، وعندها لن يطول الوقت قبل أن تواجه إسرائيل العزلة والعقوبات والمحاكمات. وعلى سبيل المثال لا الحصر على نجاح حركة المقاطعة في الفترة الأخيرة، فقد قرر الاتحاد الوطني للطلبة في بريطانيا الذين يمثل 7 ملايين طالب مقاطعة "إسرائيل". كما أُجبرت شركة "فيوليا" الفرنسية العملاقة على بيع معظم أعمالها في دولة الاحتلال بعد خسارتها لعقود بمليارات الدولارات جراء حملة المقاطعة ضدها حول العالم. بالرغم من النجاحات التي حققتها المقاطعة، إلا أنه لا يجب الاطمئنان إلى مستقبلها كون "إسرائيل" تضع كل قوتها وتسعى لتجنيد أصدقائها وحلفائها لإحباطها، وحققت في ذلك نجاحات مهمة تمثلت بإقناع الكونجرس الأميركي ومجلس النواب الكندي وغيرهما من برلمانات العالم بسنّ قوانين تحرم مقاطعة "إسرائيل"، وتعتبره عملًا من أعمال معاداة السامية. كما تضمنت هذه القوانين إجراءات لمعاقبة دعاة المقاطعة والمشاركين فيها. على الفلسطينيين وأصدقائهم بذل المزيد من الجهود واستثمار موارد وطاقات أكبر لإنجاح حملة المقاطعة، ومنها زج القيادة الفلسطينية في السلطة والمنظمة بكل طاقاتها في هذه المعركة، وليس التعامل معها على استحياء وعدم التدخل عندما يجب التدخل، مثلما حدث بعد تراجع شركة "أورانج" عن قرارها بعد ضغط من الحكومة الإسرائيلية على الحكومة الفرنسية، فكان يجب أن يواجه بضغط مماثل من قبل الحكومة الفلسطينية. كما يجب على القيادة الفلسطينية العمل على إقناع القيادات والحكومات العربية لدخول معركة المقاطعة، لأنها إحدى الأدوات البارزة للدخول إلى الطريق المضمون لإجراء التغيير الضروري في موازين القوى، الذي سيوقف الزحف الاستيطاني العنصري والمخططات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة وداخل أراضي 48، وسيفتح نافذة لتوفر فرصة لفرض تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، التي لن تتحقق، ولو بأي درجة، في ظل استمرار الأوهام والرهان على المجتمع الدولي وحده، أو على المفاوضات، وعلى الضغط الأميركي على إسرائيل الذي أدى سابقًا إلى وصولنا إلى الكارثة التي نحن فيها، وسيؤدي الاستمرار بهذه الأوهام والرهانات إلى كارثة أكبر. تبقى نقطة أخيرة هي: هل تقتصر المقاطعة على مقاطعة الاحتلال والاستيطان ولا تمس بشرعية "إسرائيل" المزعومة، أم أنها لا بد أن تكون مقاطعة شاملة ترتكز إلى أن "إسرائيل" دولة قامت على أنقاض شعب آخر وتستمر في عملية إبادته، وترفض كل ما هو وارد في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي من شأن تطبيقها أن يفتح الطريق لحل مرضٍ للقضية الفلسطينية. كما أنها أجهضت كل الحلول والمبادرات التي قدمت وترمي إلى التوصل إلى تسوية تتضمن حتى أقل من الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، بالرغم من أن القيادة الفلسطينية اعترفت بحق "إسرئيل" في الوجود، وأوقفت المقاومة ضدها، والتزمت بالتزامات أمنية واقتصادية تضمن أمن واستقرار "إسرائيل". وهذا يقتضي مراجعة طريق "أوسلو" والتحرر من التزاماته، ولو بالتدريج، من وقف التنسيق الأمني، وصولًا إلى سحب الاعتراف بإسرائيل. إن من يريد أن يكتفي بمقاطعة الاستيطان فعليه أن يفعل، ولكن المقاطعة لن تعطي أكلها إذا لم تصل إلى الكل الإسرائيلي، حينها ستشعر إسرائيل بأنها ملاحقة ومعرضة للعزلة والعقوبات والمحاكم على جرائمها السابقة والمستمرة. فالكيان الذي يمارس الاحتلال والاستيطان والعنصرية الذي هو تجسيد لمشروع استعماري صهيوني لا يزال مفتوحًا ولم يغلق، لا يمكن أن يكون شرعيًا.