كتب: علاء الترتير
بعد اتضاح نتائج الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة واختيار الناخبين للنهج العنصري الكولونيالي للحكومة الاسرائيلية برئاسة بنيامين نتانياهو، أصبح من الملّح أكثر من أي وقت مضى الإجابة على التساؤل التالي: ماذا على الفلسطينيين فعله الآن لتعديل ميزان القوى المُختَل ومواجهة المحتل من أجل الخلاص منه وإحراز الحقوق الفلسطينية الجماعية؟ الإجابة على هذا التساؤل تقتضي الفعل بالدرجة الأولى، وهذه ستة اقتراحات لقرارات فلسطينية من أجل المساهمة في عنّونة جذور "الصراع الفلسطيني الاسرائيلي".
أولاً: على القيادة الفلسطينية الحالية الاعتراف بشكل واضح وجليّ والاقرار للشعب الفلسطيني وللمجتمع الدولي بأن خيار حل الدولتين كما حددته اتفاقية أوسلو قد مات منذ زمن طويل كما تبرهن الحقائق على أرض الواقع من توسع استعماري إحلالي صهيوني وغياب أي سيطرة أو سيادة فلسطينية حقيقية خلال العقدين الماضيين. كذلك فعلى القيادة السياسية الفلسطينية الحالية أيضاً التشارك مع المجتمع المدني ومؤسسات الفكر والتفاكر ومراكز استطلاعات الرأي من أجل القيام باستفتاء شعبي يشارك فيه كافة الفلسطينيين في الأرض المحتلة والمنفى والبالغ عددهم ما يقارب اثنا عشر مليوناً. الهدف من هذا الاستفتاء الشعبي هو معرفة الرأي الحقيقي للفلسطينيين بخصوص القضايا الجمعية الرئيسية كشكل الحل النهائي للصراع ووسائل المقاومة وكيفية ممارسة حق العودة. لم يحصل استفتاء شعبي كهذا أبداً، وبتنفيذه تصبح القرارات السياسية نابعة من ومعتمدة على تطلعات الشعب الفلسطيني بأكمله وخاضعة لرؤيته. هذا سيشكل منعطفاً جديداً في النظام السياسي الفلسطيني؛ إذ أن أصوات الشعب هي التي ستقود المرحلة بدلاً من نظام سياسي زبائني ونظام شخصاني للحوكمة. قد تحاجج القيادة الفلسطينية الحالية في هذا المضمار بأنها قد حققت نجاحات بارزة في مسعاها الدبلوماسي للاعتراف بدولة فلسطينية على حدود عام 1967. ولكن هذه محاججة باطلة؛ إذ أن هذه الدولة ما زالت سراباً وتحققها محال في ظل الديناميكيات الحالية.
ثانياً: على القيادة السياسية الفلسطينية الحالية التعامل مع انضمام "فلسطين" لعضوية المحكمة الجنائية الدولية كقرار استراتيجي من أجل محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين بدلاً من التعامل مع المحكمة واستخدامها كورقة سياسية من أجل العودة للمفاوضات الثنائية. فالتعامل الجديّ مع المحكمة الجنائية الدولية هو متطلب رئيسي من أجل البدء في تحقيقات محتملة بجرائم حرب ومن أجل ضمان العدالة الدولية. عدا ذلك سيكون الانضمام لهذه المحكمة مضيعة للوقت والجهد. ولكن وفي نفس الوقت لا يجب أبداً ترك القيادة الفلسطينية للتعامل لوحدها مع "ملف المحكمة الجنائية الدولية". فنجاحها في ذلك هو موضع شك كبير ومحل احباط كما تذكرنا "واقعة جولدستون". وبالتالي فعلى المجتمع المدني الفلسطيني وخبرائه في هذا المجال قيادة هذه الدفة بدلاً من الموافقة على تعينهم بموجب قرار رئاسي في لجنة شاهدة على عملية الانضمام ولكنها لا تملك أية صلاحيات حقيقية على العملية نفسها. فالمجتمع المدني الفلسطيني مطالب بالاشتباك مع القيادة الفلسطينية من أجل الحصول على صلاحيات وسلطة ذات معنى.
ثالثاً: ثمة حاجة ملّحة للغاية لإعادة ترتيب وظائف ومهام السلطة الفلسطينية وخاصة فيما يتعلق بالجانب الأمني. أضف إلى ذلك الحاجة الملّحة للبدء بعملية هدم لمنظومات اقتصادية-اجتماعية-سياسية خلقتها اتفاقية اوسلو والتي أقامت على أساسها منظومات فاسدة بجوهرها. فالشعب الفلسطيني لن يرضى أو يقبل بتصريحات فارغة من المضمون بأن التعاون الأمني مع اسرائيل على وشك الانتهاء. وإنما ما يريده الشعب الفلسطيني حقائق ملموسة على أرض الواقع كشعور الفلسطينيين بأن الأجهزة الأمنية الفلسطينية هي من أجل حمايتهم بالدرجة الأولى. إذن فثمة حاجة رئيسية لعنونة فجوة الشرعية وأزمة الثقة بين الفلسطينيين وقيادتهم السياسية. ففي عام 2010 على سبيل المثال أظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة معاً للأنباء وشارك فيه 23480 شخصاً عبر موقعها الالكتروني بأن 95.5% من المستطلعين يعتقدون أن "السياسيين يكذبون". اليوم في العام 2015 لا يوجد ما يبرر نتائج مغايرة لما كان عليه الحال في العام 2010، بل ربما العكس.
رابعاً: نظرياً فإن مأزق إعادة إعمار غزة يجب أن يحفز حركتي فتح وحماس لجسر الانقسام الفلسطيني، ولكن عملياً وللأسف فهذا يبدو بعيد المنال. فالاطار العام لإعادة إعمار غزة بحاجة إلى إعادة بناء قبل البدء بإعادة الإعمار وهذا يتضمن مجابهة آلية الأمم المتحدة المهينة للفلسطينيين والوصفات السياساتية لمجتمع المانحين. فعلى المجتمع المدني الفلسطيني أخذ زمام المبادرة وإنشاء لجنة وطنية فنية مستقلة تحظى باحترام شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني من أجل الاشراف على عملية إعادة الإعمار ومحاسبة الفاعلين المختلفين في هذه العملية. فمبادرة "متابعة الدعم الدولي لفلسطين" تشكل مثالاً حياً لتدخل المجتمع المدني في عملية إعادة الإعمار وإدخال عناصر المحاسبة والمسائلة في هذه العملية.
خامساً: على القيادة الفلسطينية الحالية إصدار رسائل تحذيرية للرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأجسامهم المختلفة العاملة في الأرض الفلسطينية المحتلة. هدف هذه الرسائل هو تحذيرهم بأنهم إذا ما استمروا بالتواطؤ في إدامة الاحتلال العسكري الاسرائيلي فعليهم اغلاق اعمالهم في الأرض المحتلة في مدة أقصاها عام واحد. ربما سيعتقد البعض بأن هذا الاقتراح اقتراح انتحاري أو غير منطقي وغير عقلاني، وسيعتقد آخرون بأن هذا الخيار سيجلب الضرر السياسي والاقتصادي للفلسطينيين. ولكن أحاجج هنا بأن قرارات شجاعة وجريئة كهذه ستكون كفيلة بهز بنية منظومة أوسلو وتعرّي مجتمع المانحين وتواطؤهم في إدامة الاحتلال. خطوات كهذه ستوضح أيضاً بأن الحلول الاقتصادية للمشاكل السياسية لن تجدي نفعاً وبأن نهج "عوائد السلام" ما هو إلاّ سراباً. بالطبع قرارات كهذه ستكون مكلفة على مستوى المستقبل القريب، ولكنها ضرورية من أجل خلق وقائع جديدة على أرض الواقع تساعد الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
أخيراً، العديد من الفلسطينيين وخاصة الأجيال الشابة تعتبر حركة المقاطعة لإسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها مصدر رئيسي للأمل. ولكن القيادة السياسية الفلسطينية الحالية تعتبر حركة المقاطعة لإسرائيل نقيضاً لجوهر وجود السلطة الفلسطينية والمبني على التعاون المطلق مع المحتل والمستعمِر. ولكن على القيادة السياسية الفلسطينية إدراك وفاة الإطار العام الناظم لوجود السلطة الفلسطينية. فإطار عام جديد واستراتيجية جديدة هو ما يحتاجه الفلسطينيون، وتشكل حركة المقاطعة لإسرائيل أحد أهم عناصر الاستراتيجية الفلسطينية البديلة من أجل إحراز الحقوق الفلسطينية الجماعية.
الاقتراحات الستة هذه هي عينة مختارة من جملة من الاقتراحات والخيارات الفلسطينية المتاحة من أجل خلق وقائع جديدة وديناميكيات متغيرة على مستوى المستقبل القريب. فخطوات كهذه ستساهم في تغيير قواعد اللعبة السياسية وتؤسس لظهور قيادة فلسطينية شرعية جديدة ببرنامج سياسي مختلف ورؤية مستقبلية جديدة واستراتيجية نضالية تسعى بالأساس لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ونظم الحوكمة، وتسعى لمجابهة المحتل للخلاص منه وإحراز حقوق الفلسطينيين في المنفى وفي الأرض الفلسطينية المحتلة.
* مدير برامج "شبكة السياسات الفلسطينية" وباحث أكاديمي في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية