عمر شحادة: بطريقة أو بأخرى تمكن المجلس المركزي الفلسطيني الذي عقد في العاصمة التونسية في اكتوبر عام 1993 من القيام بالمطلوب، وذلك بالمصادقة على ما سمي باتفاقية أوسلو ومذكرة الاعتراف المتبادل بين "إسرائيل" مجهولة الحدود ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للشعب الفلسطيني، واختتم الاجتماع بنبوءة متفائلة تقول: "بأن أوسلو قد يحمل دولة في بطنه أو سوف يرسخ الاحتلال".
وكان قد سبق ذلك، نزولاً عند شرط وزير الخارجية الأمريكي آنذاك "شولتز" للتعامل مع منظمة التحرير، بأن تعهد الرئيس عرفات خلال مؤتمر صحفي في مدينة جنيف في ديسمبر 1988، بنبذ "الإرهاب" والاعتراف بحق "إسرائيل" بالوجود الآمن، غداة إعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر على وقع خطى الانتفاضة المشتعلة في الضفة والقطاع، وهو ما اعتبره الكثيرون فضلا عن كونه تنازلا فلسطينيا مجانيا غير مسبوق، بمثابة شرط يستهدف زرع بذور الفتنة والانقسام، والمقدمة المعهودة المجربة لإجهاض الانتفاضة بالأساليب الدبلوماسية بعدما فشلت أساليب الاحتلال بتكسير العظام وبقية الوسائل الأمنية والعسكرية.
ينعقد المجلس المركزي اليوم ونحن نبتعد أكثر .. فأكثر عن قيام الدولة التي أعلنها الرئيس أبو عمار من الجزائر وخالها قريبة، ونستذكر كلمات حكيم الثورة بأن "أوسلو يحمل بذور فنائه" وها هو قد وصل ذروة أزمته التي لا حل لها إلا بإنهائه ودفنه، لأنه ينطوي على تناقض أساسي وجوهري بين أهداف المشروع الصهيوني التي يجري تكريسها والحقوق الوطنية التي يجهد الاحتلال لتقويضها.
بحسابات البيدر، بعد ست عشرة عاما على انتهاء المرحلة الانتقالية، واثنين وعشرين عاما على توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 في حديقة البيت الأبيض، انتهى الموقف الأمريكي باستخدام "الفيتو" في وجه إدانة ووقف الاستيطان الذي يلتهم أرض العاصمة والضفة والدولة الموعودة ويهجّر أهلها، وبالتلويح به في وجه الذهاب لمجلس الأمن ومؤسسات الأمم المتحدة واللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، وبالإصرار الشديد على الاستمرار في تجديد لعبة إدارة الحل طويلة المدى عبر ما يسمى بالمفاوضات والحلول الثنائية بالمرجعية الأمريكية.
إدارة حل أمريكية طويلة الأمد بمشاركتنا، فيما يجري تنفيذ المشروع الصهيوني على الأرض دون أي اعتبار لتجارب أسلافنا، تماما كما كانت تقوم به دولة الانتداب البريطانية، دولة "وعد بلفور" في مواجهة انتفاضات شعبنا وثورة الـ36، بإطلاق الوعود الخادعة والمستغفلة للعرب وإشغال القيادات الفلسطينية آنذاك بالمؤتمرات واللقاءات في لندن وغيرها، وزرع بذور الفتنة والانقسام بينهم واللعب على وتر العشائرية والفئوية والمصالح الشخصية واحتواء بعضهم بالامتيازات والضغوط المادية والمعنوية.
أما الاحتلال فانتهى به صلف القوة والاستخفاف بنا إلى حد الإجماع الإجرامي الذي يطالبنا بالتنكر والنفي للذات الوطنية وبالاعتراف بيهودية الدولة وبالقدس عاصمتها على أنقاض الهوية والوطن والعودة وتقرير المصير، فيما تكرر الرباعية الدولية كالببغاء دون أية صلة بواقع حرب الإبادة في غزة وحصارها والتنكيل بأبناء شعبنا في مخيمات الشتات وتسونامي الاستيطان والمستوطنين ونهب الموارد الوطنية وجرائم القتل والاعتقال، تكرر أنشودة "حل الدولتين"، الذي بات أفيون السياسة الرسمية العربية التي تحذرنا اليوم وتطالبنا بالإحجام عن اتخاذ أية خطوة سياسية أو أمنية أو اقتصادية جادة حتى انتهاء انتخابات الكنيست القادمة وتشكيل حكومة الاحتلال الجديدة، في انتظارٍ مزمن لمعجزة ووعود لن تتحقق.
تتواصل نداءات الرأي العام الوطني بإنهاء الانقسام، ومطالبات القوى الوطنية والإسلامية بوقف الرهان على المفاوضات والحلول الثنائية الأمريكية، ويتعمق الإدراك الوطني العام بالحاجة الماسة إلى امتلاك الإرادة للقطع التام مع اتفاقية أوسلو"إستراتيجية ومفاوضات والتزامات"، بوصفه أولا: سبيلاً لحماية المصالح الوطنية العليا وللخلاص من الأزمة الوطنية التي تُفتت وتشِل نضال شعبنا ومؤسساته الوطنية، وخياراً يعبد الطريق لاشتقاق إستراتيجية مقاومة وطنية شاملة للاحتلال تشمل مقاومة شعبية جادة ومجدية عبر كافة أشكال النضال السياسي والجماهيري والاقتصادي والدبلوماسي والقانوني وبما فيها تفعيل المقاطعة ومناهضة التطبيع واللجوء لمحكمة الجنايات الدولية والتمسك بعقد المؤتمر الدولي تحت إشراف الأمم المتحدة لتنفيذ قراراتها ذات الصلة وفي مقدمتها الاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس تحت الاحتلال وقرار حق العودة رقم 194.
وبوصفه ثانيا: مفتاحاً لبناء شراكة حقيقية بالدم والتضحيات والقرار، ووحدة وطنية قاعدتها برنامج الإجماع الوطني في الحرية والاستقلال والعودة، عنوانها منظمة التحرير جوهر نظام سياسي ديمقراطي وشرعي، بديلا للانقسام والتفرد والاستحواذ، وآليتها اجتماعات الإطار القيادي المؤقت لتنفيذ اتفاق المصالحة.
صحيح أن أوسلو وصل إلى طريق مسدود وحد التعفن، ولكنه لم يمت ولم يدفن وتدور الدوائر لتتويجه بحكم ذاتي محسن ومستدام يسمى دولة فلسطين في إطار ما سمي بالمبادرة العربية ونظام أمني إقليمي ودولي يضم الاحتلال لمحاربة ما يسمى بالإرهاب وتنظيم دولة "داعش".
وكي لا ننخدع بالتفاؤل المنثور، فمن المسؤولية القول بأن المجلس المركزي أو القيادة المتنفذة لن تقدم "قولا وعملا" على إعلان دفن أوسلو أو اتخاذ قرار بوقف التنسيق الأمني أو أي من التزامات أوسلو "المقدسة"، لأن حدوث هذا الأمر بات يتطلب تغييرا في تناسب القوى السياسية والاجتماعية الذي ولدته اتفاقية أوسلو وتداعيات الانقسام والصراع بين طرفي الانقسام على السلطة، لا يمكن انجازه دون اللجوء إلى الحراك والضغط الشعبي المنظم في سياق إستراتيجية المقاومة وبناء ائتلاف القوى المناهضة لأوسلو والحل الأمريكي التصفوي للقضية الوطنية.