سلطت صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية، الضوء على زيارة رئيس أركان جيش الاحتلال الجديد، "غادي آيزنكوت"، لقيادة المنطقة الجنوبية (التي تتولى المسؤولية عن جبهة قطاع غزة) مؤخرًا.
وقال مراسل الصحيفة العسكري أليكس فيشمان في توصيف المشهد بعد زيارة رئيس الأركان الجديد "عندما زار الجنرال آيزنكوت قيادة اللواء الجنوبي، ونظر عبر المنظار إلى جهة الأحياء الفلسطينية القريبة من السياج، تكرر المشهد نفسه: صف أمامي من البيوت المدمرة، وإلى جانبها خيام تعيش فيها العائلات التي باتت بلا مأوى".
صحيح أن لجنة ترميم غزة المشتركة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة قامت بتوزيع 43 ألف قسيمة لشراء الاسمنت، وسمحت إسرائيل بدخول 60 ألف طن من مواد البناء إلى غزة، لكن شيئًا لم يتغير في كل الأحياء الممتدة أمام الحدود. ولدى سكان غزة تفسير بسيط لذلك: لماذا يقومون بالترميم، وإسرائيل ستعود إلى غزة بعد عدة أشهر"هذه هي الأجواء في القطاع، المواجهة العسكرية المقبلة ليست سوى مسألة أشهر معدودة".
وأشار فيشمان إلى أن "رئيس الأركان الجديد وصل إلى المنصب جاهزًا، ويعرف تمامًا ما الذي يريده، إنه يحمل معه كراسة مكتنزة، ومنظمة حسب جدول الأولويات، وإعلانه عن التعيينات العسكرية الجديدة في القيادة بعد يومين فقط من تقلده منصبه، تشكل دليلًا آخر على قيامه بإعداد واجباته البيتية جيدًا.
إن موجة التعيينات الأولى شملت ضابطين حظيا بالتقدير من قبله منذ كان قائدًا للمنطقة الشمالية، كلاهما مهنيان جاءا من المدرعات وخضعا لقيادته، وعيّن الجنرال يوسي هايمان قائدا للكليات العسكرية إلى جانب منصبه كقائد للفيلق الشمالي، وبذلك أعاد آيزنكوت طراز المهام المزدوجة لقائد الكليات، ما يوفر وظيفة عسكرية، وهذه هي الوظيفة الثانية التي يوفرها آيزنكوت، فقبل دخوله إلى مكتبه أوصى بتعيين قائد المنطقة الجنوبية السابق طال روسو، لمنصب قائد جبهة العمق (وهي الجبهة ذات الصلة الأشد بأجهزة الاستخبارات)، وسيؤدي روسو هذه المهمة كجنرال في الاحتياط.
أما التعيين الثاني فكان الجنرال آيال زامير الذي تسلم قيادة المنطقة الجنوبية، وكان سكرتيرًا عسكريًا في ديوان رئيس الحكومة، وهو من الشخصيات البارزة في سلاح المدرعات.
زيارة آيزنكوت إلى قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي فور تعيينه لم تكن صدفة. ففي اليوم التالي قام بزيارة المنطقة الوسطى. وهكذا سجل لديه في كراسته. المسألة الفلسطينية قد تكون أكثر المسائل المهددة بالنسبة له، ولكنها الأكثر قابلية للانفجار.
صحيح أن الجيش يبني قوته، وأن اهتمامه الأول يكرسه لما يحدث على الجبهة الشمالية، حيث يعمل حزب الله وإيران على جبهتين: السورية واللبنانية. وعندما يقرر الجيش مثلًا شراء مصفحات من طراز "نمير" وليس طائرات "إف 22" فإن وجهته لا تكون الضفة وغزة، وإنما الجبهة اللبنانية. ولكن الجبهة الأكثر تهديدًا بالانفجار الآن هي غزة، وبعدها الضفة.
وطبقًا لمراسل "يديعوت" العسكري فإن "الأصوات القادمة من غزة حول جولة عنف أخرى في الأشهر القريبة تقع على آذان صاغية جيدًا في إسرائيل، والجيش يستعد لذلك جيدًا وبصورة إستراتيجية، "إسرائيل" ليست معنية بجولة عنف أخرى في غزة، بعد أن دفعت بحياة 67 جنديًا و5 مدنيين في الحرب الأخيرة، وصرف سبع مليارات شيكل على الحرب، وإغلاق المطار الدولي، وجلوس ثلثي سكان الدولة في الملاجئ.
هناك مبدأً معروفًا في الشرق الأوسط يقول إن المواجهة القادمة تبدأ حيث انتهت الجولة التي سبقتها، والجولة الأخيرة انتهت بتدمير الأبراج السكنية في غزة. وحتى الآن يواصل الطرفان لعق جراحهما، يستخلصان العبر، ويفهمان أن جولة أخرى لن تحقق شيئًا لأي طرف، باستثناء حاجة الفلسطينيين إلى هز العالم وتذكيره بالضائقة الاقتصادية والسياسية في غزة.
وبحسب فيشمان فإنه "كلما مضى الوقت كلما غابت غزة عن الوعي الدولي والعربي، الحصار المصري يصبح أشد صرامة، والعداء المصري للقطاع يتعمق، سلاح البحرية المصري لم يعد يحذر قوارب الصيد الغزية من الاقتراب من مياهه الإقليمية، بل أصبح يطلق النار بهدف إغراق القوارب، بالنسبة للمصريين أصبحت غزة دولة معادية، ولذلك يتم إطلاق النار أولًا ومن ثمّ السؤال. الجامعيون الفلسطينيون الذين يرجعون من مصر لزيارة القطاع لا يستطيعون المغادرة ثانية، فلا مجال للخروج عبر معبر رفح".
إن المسألة لا تتوقف على كون غزة لم تحقق أي مكسب سياسي بعد 50 يومًا من القتال الدامي والدمار. بل إنها تشهد تراجعًا اقتصاديًا وسياسيًا. لم تحصل لا على ميناء بحري، ولا زيادة كمية الماء والكهرباء، ولا توجد صادرات أو واردات. والأمر يمضي نحو الانفجار. وجهة نظر آيزنكوت تقول إنه "إذا كتب علينا خوض صدام آخر، فيجب بذل كل شيء من أجل تأجيله، وتذويبه".
إن الجيش يملك آليات غير عسكرية لتأجيل الجولة القادمة مع غزة، لكنها محدودة جدًا، المزيد من المواد الغذائية، زيادة عدد تصاريح الخروج، المزيد من الماء، وربما لاحقًا المزيد من الكهرباء، ولكن ليس أكثر من ذلك. الاقتصاد هو الذي يحسم الأمور. لقد تم شطب 70 مليون شيكل من دخل حماس بعد قيام مصر بتدمير الأنفاق. ويؤثر ذلك على كافة أسعار السلع الأساسية، لأن البضائع الإسرائيلية أغلى بنسبة 60% من السلع التي كانت تصل عبر أنفاق رفح.
ومن بين خمسة مليارات دولار وعدت بها الدول المانحة لترميم غزة، لم يصل إلا 150 مليون. كما أن ضائقة المياه صعبة، وعشرات آلاف السكان يتجولون في الشوارع بلا مأوى.
إن مفتاح مسألة غزة يتواجد بين أيدي القيادة السياسية في إسرائيل، وفي هذا المجال يملك الجيش الكثير مما يقوله، لكن توجه القيادة السياسية للحل هو لا بشكل مطلق. وفي مثل هذا الوضع لا يتبقى للجيش إلا الاستعداد لجولة أخرى.
خلال سنوات من قيادة آيزنكوت للمنطقة الشمالية وقعت الكثير من الأحداث، بعضها معروف والبعض الآخر مجهول، وكان يمكنها أن تتدهور إلى مواجهة شاملة، لكنه تم صدها. وبالذات خلال الأشهر الأخيرة طرأ تغيير على توجه الحفاظ على مستوى منخفض ومحاولة تأجيل المواجهة. وبات يستبدلها الآن التوجه المغامر، بل وغير المسؤول أحيانًا.
إن اغتيال رجال حزب الله والجنرال الإيراني، هي مثال على هذا التوجه المغامر الذي كاد يقود إلى مواجهة شاملة، مشيرًا إلى أن ما حدث لم يغير شيئًا في الواقع. فإيران تواصل تدعيم إستراتيجيتها أمام إسرائيل، من البحر وحتى الجولان، وربما ينجح آيزنكوت بإعادة تأجيل جولة العنف القادمة إلى أقصى حد، على الحدود الشمالية.