في كل وقت، وتحت أي ظرف، يجب علينا أن نسيء الظنّ بالسلطة، أفرادًا ومؤسسات. «السلطة» هنا مقصودة بمفهومها الواسع، تغلغلها المجتمعيّ وآليات عملها القائمة، بالضرورة، على القهر والاجبار. لا مكان في الفضاء السياسي للنوايا الحسنة، أو لعلاقات القرابة. ليس الرئيس أبًا، ولا أخًا، ولا صديقًا، ولا يجب أن يكون. الرئيس، أيّ رئيس، من حيث موقعه السياسي، هو شخصٌ لابدّ من العمل على إزعاجه بشكل يومي حتى يطيب مسعاه ويحسن فعله أو يُخلع دون أدنى إحساس بالندم أو تأنيب الضمير.
في الحالة الفلسطينيّة، تختلف التفاصيل، لكنّ العناوين تظلّ ثابتة. حقيقة أنّ أظافر «سلطتنا» التي تقمع ليست أصيلةً بل تركيب، توضع وتزال في عمليّة تحكمها «إسرائيل»، تلك الحقيقة لا تعني أنّ نلتمس للسلطة عذرًا، أو نعوّل على طيبة قلبها، أو نحاول التفريق بين جوانبها المتكافلة. قالت أساتا شكور التي كانت عضوًا في منظمة الفهود السود الأمريكيّة بأنّ أحدًا في العالم لم يحصل على حريّته عبر مناشدة الوازع الأخلاقي للقامع. ليس أكيدًا أصلاً، في الحالة التي يكون القامع فيها فلسطينيًا عاملاً في منظومة سلطة أوسلو، امتلاكه وازعًا أخلاقيًا قابلاً للمناشدة. «الأخلاق» عند ضابط التنسيق الأمني الذي يؤمن أنّ أفعاله تخدم البلد، وعند ضابط المخابرات الذي صدّق أنه يحمي أمن الأمن، ليست هي نفسها «الأخلاق» عند جدّتي، على سبيل المثال.
بعد صدور الحكم بالسجن لمدة عام على الصحفي الفلسطيني ممدوح حمامرة بتهمة نشر صور تمس رئيس السلطة الفلسطينيّة، وإذاعة أنباء كاذبة، كان متوقعًا حدّ الابتذال أن يصدر الرئيس، وهو «راعي الحريّات الأول» وهو وفق تعبير القرون الوسطى الذي استخدمه مستشاره القانوني حسن العوري، عفوًا عن الصحفيّ العامل بقناة القدس الفضائيّة، ويبدي انزعاجه من الحكم. المسرحيّة نفسها شاهدناها إبّان صدور حكم بالسجن على أنس عواد بتهمة التهكّم على الرئيس وسنشاهدها في المستقبل. ما لم يكن متوقعًا هو أن يقارب البعض ما حدث في سياق أخلاقيّ يكون فيه السيد الرئيس كويّس، «بس الي حواليه وحشين».
تلك المقاربة ليست خوضًا طفوليًا في النوايا وتنازلاً لصالح السلطة ورموزها فحسب، بل وتنمّ عن فشل في فهم سلّم أولويات كلّ الجهات التي تريد احتكار العنف وسلطة أوسلو، على بؤسها وموقعها من معادلة «الأمن» التي ترسيها إسرائيل، واحدة منها. لابدّ أن نفهم أنّ جهاز المخابرات الذي حقق مع حمامرة وعوّاد أغلى وأحبّ إلى قلب الرئيس منّا نحن. الرئيس لا يثق بنا، لديه جهاز «الأمن الوقائي» لهذه الغاية، لن يتأخر عن قمعنا إن كان ذلك ضروريًا، والشواهد كثيرة. سيكون عبثيًا، إذًا، أن نثق به نحن ونطلب منه لجم بعض من يحاولون تقديمه على أنّه ديكتاتور في حين أنّه يجتمع بهم على طاولة واحدة ويقود المركب الذي هم فيه، والذي نحن خارجه.
لم يسعدني العفو الذي أصدره الرئيس، ولست مستعدًا لتقديم الشكر ولا الثناء. لا تهمني «صورتنا» التي يحاول البعض تلميعها، مطالبين بإنهاء المظاهر التي من شأنها تقديمنا على أننا دولة بوليسية للرئيس فيها الأمر من قبل ومن بعد. إذ نحن بوليسيّون فعلاً (لسنا دولة)، وعندنا من الأجهزة الأمنية توليفة واسعة (بلحية وبدون) وللرئيس –في الأشياء التي تركتها إسرائيل- الأمر من قبل ومن بعد فعلاً، وما القضاء المستقل ودولة المؤسسات إلا نكات سمجة ترددت كثيرًا في الفضاء الفلسطيني في السنوات الأخيرة، وما لها على أرض الواقع لا وجود ولا تمثّل.
سيدي الرئيس، إذا كان البعض قد خاطبك قائلاً أن هناك من يصر على وضعك في موقع «الديكتاتور» وهو يعلم أنّك لست كذلك، فأنا أخاطبك لأقول لك أنني أعتبرك ديكتاتورًا فعلاً، إنما ديكتاتور لايت، بدون كافيين. وفي الوقت الذي نصحك البعض فيه بلجم «العسس الالكتروني» فإنني، في هذه اللحظات التاريخيّة التي يموج فيه الوطن العربي برمّته بتغيرات وتنهار فيه عروش، أدعوك للثناء على المخابرات، ودعمها بكلّ الممكن والمتاح، أنا لو كنت مكانك لفعلت ذلك دون تردد. هذا هو المشهد، سيدي الرئيس: أنت تقول أنّ الحرية عندنا سقفها السماء، لكنني لا أصدقك، ولا أثق بك، ونصيحتي، سيدي الرئيس، أن لا تثق أنت بي وبمن هم مثلي. فليكن شعار علاقتنا بشأن حرية التعبير، كما بشأن غيرها، هو التالي: دع المشاعر جانبًا، وهيا نتقاتل.