الهجوم الدموي الذي حصل في مجلة تشارلي ايبدو الفرنسية هو فعل لا يمكن وصفه إلا بالإجرام، وأنا شخصيا آسفة لما حصل، ولكن، العالم وبالذات العربي مليء بجرائم تحدث يوميا أكثر بشاعة وفظاعة من هذه الجريمة، إلا أننا لا نرى تلك المواقف التضامنية من زعماء العالم العربي والإسلامي الذين هرعوا لفرنسا وكأنهم يقدمون اعتذارا لها عن ذنب يعلمون جيدا أن الإسلام بريء منه.
المسيرة التي خرجت في باريس جمعت من التناقضات الساخرة ما يدعو للضحك، ففي الوقت الذي اعتبر الألمان فيه المسلمين "أعداء" في آخر استطلاع للرأي، شاركت فيها المستشارة الألمانية أنجلا ميركل التي سبق وكرمت رسام كاريكاتير بالمجلة رسم رسوما مسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم وضعت يدها بيد زعماء العرب والعالم الإسلامي. وفي المسيرة التي خرجت ضد "الإرهاب"، شارك أيضا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بصفته أكبر إرهابي ومجرم حرب، وسأكتفي باحتقار الكاتب اليهودي رون ميفر لفرنسا لأنها سمحت لنتنياهو المشاركة في مسيرة باريس واصفا إياه بأنه أحط إرهابي.
وفي ذات المسيرة التي خرجت لدعم حرية الرأي والتعبير، شارك الرئيس الفلسطيني محمود عباس غاضا بصره عن عشرات الانتهاكات التي تقوم بها أجهزة أمن السلطة بحق الإعلاميين الفلسطينيين، والتي كنتُ أنا شخصيا ضحيتها عدة مرات، حيث وجهت الأجهزة الأمنية لي تهمة "سب الرئيس وإطالة اللسان"، وهي ذات التهمة التي حرمت زملائي الصحافيين عبد الرحمن ظاهر ومحمود رزق من دخول فلسطين.
يبدو لي أن هذا الزمن أصبح فيه شخص الحاكم أكثر قدسية من الأنبياء والرسل! زمن يعاقبون فيه من يسب الزعيم، ويتركون من يسب الذات الإلهية، وينتهي بهم الأمر بالتضامن مع مجلة تسب الرسول عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء الزعماء الذين يقمعون الحريات ويحاسبوننا على سب شخوصهم الموقرة، لم ينتبهوا أن المجلة التي خرجوا لأجلها كانت ولا زالت من أكثر وسائل الإعلام الاستفزازية التي تحتقر الإسلام وتسيء للرسول، وتجرح مشاعر مليار ونصف المليار مسلم. هذه المجلة التحريضية علمت أن أكثر من 500 مسلم قتلوا في مظاهرات الاحتجاج على الرسوم المسيئة للرسول، ورغم ذلك لا زالت تعيد نشرها دون أدنى شعور بالمسؤولية.
ولا ننسى موقف فريق تحرير المجلة من الإسلام، وعلى رأسهم محرر المجلة ستيفان شاربنيير الذي اعتبر احتقارا واضحا للإسلام, هذا الموقف انتقده البيت الأبيض عام 2012 بعد نشر المجلة لرسما كرتونيا ساخرا عن النبي الكريم محمد، حيث تساءل المتحدث باسم البيت الأبيض عن الحكمة من نشر صورة "تمس مشاعر الكثير وتلهب المشاعر".
عن أي حرية تعبير تدافعون؟ الصحافة المحترمة ترفض نشر أي شيء يسيء للديانات، وتبتعد عن إثارة النعرات، فهذه صحيفة الجارديان البريطانية، تواصل موقفها المشرف في الدفاع عن الإسلام، حيث دعت إلى عدم إلصاق التهمة بمسلمي فرنسا، مؤكدة أن "العرب ذُبحوا بدم بارد على مدار سنوات.. وباريس لم تُلام على جرائم استعمارها للجزائر".
الأكثر استفزازا، هي تلك المسيرة الحاشدة التي خرجت وسط مدينة رام الله في عز البرد ضد الهجوم على المجلة، هذه المسيرة التي دعت لها حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، دون أن تضع ما يحدث للاجئين الفلسطينيين في غزة وفي الخارج الذين ماتوا من البرد، على رأس أولوياتها، بدليل ما نلاحظه من شح وقمع للفعاليات الخاصة بقضايا وطنية.
لماذا استخسر الشعب الفلسطيني أن يخرج من دفئه في عز البرد ليرفع صورة الطفلة ريماس حسن التي استشهدت في مخيم اليرموك قبل أيام من شدة البرد!.
ألم يكن الأولى أن يخرجوا ليتضامنوا مع الأسرى في سجن ريمون الذي أغلقته إدارة سجون الاحتلال لأنه غرق بسبب المطر؟.
ثم لماذا تدعو القيادة الفلسطينية الشعب للخروج في مسيرات تأيدا لفرنسا وتقمع المسيرات التي تخرج للتضامن مع الأقصى الذي يُقتحم يوميا والأسرى الذين يموتون ولا أحد يسأل عنهم!ٍ
أنا لست ضد خروج أي مسيرة تنبذ "الإرهاب" والقتل في أي مكان بالعالم، ولكن، من يريد أن يخرج ويرفع شعار "أنا تشارلي" يجب أن تكون لديه على الأقل خلفية عن تلك المجلة العنصرية، ولو كانت لديه فعلا خلفية لما خرج من الأساس، ومن ينادي بالدفاع عن حرية الرأي في العالم، الأولى به أن يدافع جنبا إلى جنب عن حرية الرأي في وطنه، الحرية التي قُمِعَت بشكل جنوني في الآونة الأخيرة.
"الإرهاب" الذي يحدث في الدول الغربية هو نتيجة طبيعية للظروف التي يوضع فيها المسلمون هناك، والذين نفذوا الهجوم هم فرنسيو المولد والنشأة ولا يحملون من العروبة سوى جنسيات أجدادهم أو آباءهم، وبالتالي هم نتاج تربية المجتمع الفرنسي لا المجتمعات العربية.
فرنسا الآن تدفع ضريبة معاملتها القاسية للمسلمين، نتيجة موجة الإسلاموفوبيا التي تجتاحها، حيث أصبحت فيها كراهية الإسلام طريقة حياة، وظهر هذا الأمر مؤخرا في تصريحات الرئيس الفرنسي السابق نيكولاي ساركوزي الذي سارع في القول "إن الحضارة في فرنسا، عليها الدفاع عن نفسها ضد البربرية" متهما المسلمين اتهاما مبطنا، دون أن ينتبه إلى تاريخ باريس التي شهدت أبشع الجرائم من بينها جرائم قتل لمناضلين جزائريين تم إلقاؤهم من برج إيفل، وذبح أكثر من 200 جزائري بدم بارد حول كاتدرائية نوتردام عام 1961. بالإضافة إلى قانون الحجاب ورفض بناء المساجد التي كان فيها تميزا واضحا وقمع للحريات الدينية، ولا ننسى أن 70% من السجناء في السجون الفرنسية هم مسلمون بحجة أنهم "جهاديون" رغم أن نسبة المسلمين في فرنسا لا تزيد عن 10%.
قٌتِلَ منفذو الهجوم الثلاثة وقُتل سرهم معهم، ولم يُعرف لغاية الآن من يقف وراء الحادث، إلا أن الكثير من وسائل الإعلام العالمية بدأت توجه أصابع الاتهام نحو المسلمين متخذة بذلك ذريعة لتشويه صورة الإسلام والتضييق على مسلمي أوربا، حيث سجلت أكثر من خمسة اعتداءات ضد المسلمين في فرنسا بعد الهجوم على الصحيفة.
دعونا نفكر بطريقة منطقية، إن كانت هناك جهة معنية بالانتقام من فرنسا، فهي "إسرائيل"، ولا أستبعد وقوف الموساد الإسرائيلي وراء الحادث خاصة بعد الحراك الفرنسي الأخير تجاه القضية الفلسطينية في الحرب على غزة، وبعد تصويت البرلمان الفرنسي لصالح فلسطين والتصويت لصالح مشروع القرار الفلسطيني في الأمم المتحدة، الأمر الذي أغضب "إسرائيل" بشكل كبير، فقرر الموساد الانتقام ليضرب عصفورين بحجر، ويجعل فرنسا تحسب مليون حساب قبل أن تصوت لفلسطين، وفي نفس الوقت يشوه صورة الإسلام والمسلمين باستخدامه لأشخاص مسلمين لتنفيذ الهجوم.
يمكن كشف ملامح التورط من خلال الطريقة التي استغلت فيها "إسرائيل" حادثه صحيفة تشارلي ايبدو، عن طريق دعوه يهود باريس للهجرة إلي "إسرائيل" بدعوى أنها أكثر أمنا من فرنسا الحافلة بالإرهاب، خاصة بعد الصراع الديموغرافي لجعل اليهود أغلبية في الأراضي المحتلة بعد تراجع نسبه اليهود المهاجرين إلي فلسطين في الفترة الأخيرة. ومع كل هذا الوضوح لا أحد يستطيع توجيه "اظفر" اتهام لإسرائيل بتورطها في الهجوم، بدليل أن موقع "إنترناشونال بيزنس تايمز" الأمريكي حذف خبرًا يتهم فيه جهاز الموساد الإسرائيلي، بالوقوف وراء الهجوم، بعد نحو ساعتين من نشره، بعدما اتهمه الأخير بمعادة السامية.
أيها المسلمون، لماذا تعتذرون لفرنسا عن ذنب لم تقترفوه، فرنسا هي المدينة بالاعتذار للشعب العربي وبالأخص للجزائري والليبي، الأجدر بكم أن تعتذروا للاجئين الذين يموتون من البرد ولا يجدون موقفا أو وقفة منكم، وأتمنى من الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يذهب لغزة بعد عودته من فرنسا، فغزة تشعر بالبرد الآن، ولم يكن هذا الشتاء رحميا عليها.
كم أشتهي أن أسرق دفء الدنيا وأحيكه معطفا لكل لاجئ في هذا العالم الحقير. كم أشتهي أن أخبئ حرارة أنفاسي في مآقي عيون أطفال غزة التي تحجر الدمع فيها، رغم أنني على يقين بأن اللاجئ الذي خبأ الوطن في جيب معطفه المبلل يملك الكثير من دفء هذا العالم الانتقائي، فقط من أضاعوا الوطن يشعرون بالبرد الآن.