رنّ منبه هاتفه الجوال قديم الإصدار، فجواله الحديث باعه قبل أشهر، ليسدد بعضاً من الأموال التي استدانها ليطعم أطفاله.
استيقظ الموظف المقدام، وعلى وجه السرعة ارتدى ثيابه الأنيقة القديمة، وقبل أكثر من نصف ساعة على موعد دوامه هرول مشياً على الأقدام.
هي 6 كيلومترات، تفصل بين غرفة أبو محمد، ومكان عمله، يمشيها يومياً، ليس حباً بالرياضة ولا النشاط، لكن ثمن المواصلة، اشترى به صحن فول يطعم به أطفاله، فهم أولى بالشيكل المتوافر اليوم!
غرفة أبو محمد التي تأويه وأطفاله، هي ضمن بيت العائلة، فصاحبنا طُرد من شقته التي كانت مستأجرة، لعدم تسديده الأقساط.
وصل الموظف النشيط لمكان عمله، والجوع يقتله، رائحة الفلافل، ومشهد الجالسين في المطعم المقابل لمكان عمله، فتحت شهيته وأرجعته بالذاكرة للزمن الجميل، حيث كان للموظف راتباً !
تناسى أبو محمد رائحة الفلافل، وتغلّب على شيطانه، وبدأ باستقبال المراجعين، هذا يصرخ في وجهه، وذاك يتأفف، وآخر "يزّن" مطالباً بإنهاء معاملته فوراً، وصاحبناً يعمل جاهداً غير مكترث لصرخات المراجعين وازدحامهم فوق رأسه، قد لا يكون تواضعاً، من الممكن أن يكون تعب الأيام، وجور الظالمين قد أنهكه.
دقت الساعة الـ3، ليجمع أبو محمد شتات أوراقه، ويهمّ بمغادرة المكان، وهو يتساءل: يا إلهي متى سيعطوننا رواتبنا؟ متى الدفعة؟ متى نصف الراتب؟
خرج هائماً على وجهه مصفّراً، كله أمل بأن يخطفه الموت، بدلاً من رؤية مشهد الحرمان يعلو جبهة ابنه محمد، صاحب السنوات الـ7.
أما محمد، فقد خرج لمدرسته وكالعادة منذ أشهر، بلا شيكل أو حتى نصفه كمصروف، يذهب لمدرسته، ليرى أصحابه متجمهرين حول المقصف، يسأله صاحبه "شو بدك تشتري"، فيجيب ضاحكاً على نفسه: "أكلت بالدار ومش قادر آكل إشي".
في طريق أبو محمد لمنزله كان يتمتم متمنياً أن يكون طفله الثاني "عليّ" بخير، وألا يضطر مجدداً للتذلل للناس ليجلب له الدواء، حتى فاجأه صديقه إيراهيم، بوجه غاضب وتنفر واضح، مطالباً بأموال استدانها أبو محمد سابقاً.
وكما جرت العادة شرح أبو محمد معاناته مع الراتب، واعداً بالعمل بأسرع وقت، لسداد دينه، وفي غمرة المهانة التي يتعرض لها من إبراهيم، إذ بصاحب البقالة يناديه، ومعه دفتر كبير: "أيا أبا محمد مالك بعد اليوم من دين عندي فقد جفت الأقلام، وأغلقت الدفاتر".
عاد أبو محمد للبيـت، تناول غدائه المكرر منذ فترة "شاي بخبز"، ثم أخمد قهره بالنوم، بعدها صلّى المغرب وفتح الراديو، منتظراً نشرة المساء، علّها تحمل جديداً بخصوص موظفي غزة.
وحملت نشرة الأخبار في طياتها، أن قضية الموظفين على رأس أولويات الحكومة، وأنها لن تتركهم يجوعوا، فهم وسام شرف وهم حملة الأمانة، وخدّام الوطن.
تبسّم أبو محمد ثم "طرش" الراديو بالأرض، معلناً كفره بالحكومة، قبل أن يدرك أنه أخطأ بكسر الراديو، متمنياً ألو باعه واشترى بثمنه صحن فول لعشاء أولاده!
وع هالحال .. وهادي يوميات موظف عام ..!