شبكة قدس الإخبارية

عن الانتفاضة: كيف اختفى جورج قرمز؟

مهند أبو غوش

حدث هذا ذات شتاء

لم ينتبه أحد، لكن جورج قرمز اختفى!

هنالك معتقلين خارجين من سجن رام الله، يغذان السير تحت المطر عبر شارع عين مصباح، باتجاه المنارة. وفي المسار المقابل: شاحنة تجلب معتقلين آخرين.

زيتون يملأ الأرض الغارقة في الغضار، من جبل الخليل حتى أقصى الشمال.

القرى تلملم الحبوب وأمراض الشتاء والمحاريث العتيقة وتعبئ الجفت في المواقد.

البنات تفصّلن المراييل والأعلام والقصص التي لها طعم الكستناء.

أكرم هنية، وغريب عسقلاني، وجمال بنورة، وعزت الغزاوي، وصافي صافي، ينهيان اجتماعا في اتحاد الكتّاب.

السجناء ينظفون أسنانهم من آخر وجبة عدس تناولوها في الصواني البلاستيكية. ويقفون بانتظار العدّ.

تراب المقابر الغض، الطري، الذي احتوى أجسادا طازجة كانت قبل أيام تضج بالهتاف، بات جاهزا لاستقبال الشتاء والبذور.

يترجل شبان بذقون غير مشذبة ، مكبلين إلى الخلف بقيود بلاستيكية، من سيارات الجيب، ويتعثرون بصناديق الحديد، وعيونهم مغطّاة بشرائط من قماش أبيض ومربعات حمراء.

في غرف بعيدة .. لمنازل متراصّة.. يغني جورج قرمز “ضدّ أن يجرح ثوار بلادي سنبلة”

يغطي ذلك كلّه: شمس مريضة عند خط الزوال. الليل على الأبواب.

::

مونتي كارلو.. مونتي كارلو

“عزيزي المستمع” تقول المذيعة. “عزيزتي المستمعة” يردف الرجل الذي خلف المايكروفون. وسويّا، “أسعد الله صباحكم”

مونتي كارلو.. مونتي كارلو

كم من الأولاد تحلّقوا حول المذياع، ذي البطاريات الأربع، لكي يستمعوا، في نهاية نشرة الأخبار إلى “يا قدس يا مدينتي”

كم من الأولاد ظلّ حيا؟ كم من هؤلاء لم يجرب، فيما بعد، استعمال المخدرات أو الهجرة أو الانتحار؟!

::

حصل هذا في بداية الشتاء.. كان طين الضفّة أحمر

كنت، إن غمست قدمك هنالك، لتهرب من رذاذ ماء الشوارع الذي تثيره بصخب سيارات بيضاء تنسى أن تلقي التحيّة.. سيارات ترى دخان السجائر من زجاجها، وترى الوجوه الملفّعة بالصوف داخلها كأسماك في حوض أبيض.. تحمل أرقام تسجيل زرقاء وبيضاء بأحرف عبرية. تثقل ساقيك كتل الطين الحمراء.

عائدون من ورشات البناء في المستوطنات.. من مزارع الدجاج.. من برد الانتظار أمام الإدارة المدنية، وسجن جنيد.

عائدون من زيارات المقابر.. عائدون من المقابر.. عائدون من كل شيء إلى بيوت اسمنتية في مخيم قدورة وفي الأمعري.

يحدث كل هذا.. ومونتي كارلو تقول، في هذا الصباح الباكر: “عزيزي المستمع.”

::

شتاء على الأراضي المحتلة، شوارع القدس ملآى بسيول سوداء تنتهي دائما في أزقة البلدة القديمة.. بائعة النرجس ذات الشاربين، (هل يتذكرها أحد من أهل القدس؟)، التي تفترش الفسحة الفاصلة بين مفرق باب خان الزيت ودرب الآلام .. بين المحطتين السادسة والسابعة من الفيا دولوروسا.. تقعد هناك.

فيرونيكا [1] تنزل درجات منزلها الآن، وتمسح بمنديلها وجه السيد المسيح من العرق قبل أن يسقط مغشيا عليه .

بعد 1959 عاما (المسيح صُلِبَ في جيل 36، لا؟) كانت القدس مضاءة بالأصفر.. القدس مغلقة تماما.. مطر شديد يغسل القدس.. مجموعة فتيان لا تتجاوز أعمارهم 18 عاما أنهوا عشاء سريعا في بيت أحد الرفاق في عقبة التكية. عشاء مكون من كعك وفلافل. تعشّوا لكي يقتلوا الوقت الذي تعودوا على قتله بالنكات السريعة وبأغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام.. لحظة الصفر، اتجهوا، عبر سوق العطارين، مرورا بقبر القديسة فيرونيكا التي انطبع هنالك وجه بالأحمر على منديلها، نحو منزل شارون. مساء الإنطلاقة المبلول.. المرنّخ.. المسربل.. ما شئتم من أسماء لن تصف معنى أبخرة المطر المتصاعد من الجسد عبر الصوف نحو الأنف.

ليل مضاء بالأصفر.. بائعة زهور النرجس لم تكن هناك.. وكذلك القدّيسة فيرونيكا .. مرّ سبعة فتيان . أحدهم صعد الدرج المؤدي إلى حارة النصارى، والآخر نسرب نحو الدرج النازل نحو الواد.. توزّعوا على المفارق لكي يتيحوا لفتى يحمل علبة دهان حمراء أن يكتب “عاشت ذكرى الإنطلاقة المجيدة” استمر خمسة فتيان في طريقهم نحو باب العامود.. لم ينتبه أحد إلى عقبة حب رمان.. حيث كمن الشرطة.

في البرد يتوجب عليك خض بخاخ الدهان.. في شوارع القدس لن يمكنك خض العلبة من دون أن تصحو نصف المدينة.. رصاصتين أصابتا جسد موسى. تشظّت الذاكرة تحت الضوء الأصفر.. وشطف المطر دمه عن البلاط.

إنتفاضة : جنازة.. علم يخرج من تحت الجاكيتات السوداء الجلدية ويرتفع بلا عصا ولا سارية.. يكهرب الناس. وحجارة تشبه عصافير الدوري..

كل هذا لن يعيد موسى. دمه انشطف

ما الذي قالته مونتي كارلو عن موسى؟

من يتذكر موسى الآن ؟

::

كل هذا كان يحدث، وصوت المواطن جورج قرمز، مترافقا مع بيانو، يغني “اليوم أموت.. اليوم أقاتل.. اليوم أحيا”

__

تنويه: لن يعرف أحد أبدا، في طول الأرض المحتلّة وعرضها: من هو جورج قرمز.. لو حاولت تتبع اسم العائلة فلن تجد لها أثرا في فلسطين ولبنان.

لن يعرف أحد أبدا، في سائر أرجاء الكوكب: في أية غرفة مغلقة كان يغني جورج قرمز، خوفا من الشاباك. كيف كان يتم تسجيل الأشرطة وتوزيعها على عتبات المنازل.

لن يعرف أحد أبدا كيف ذاب فدائي إسمه جورج قرمز.. بلا مقبرة.. بلا صفحة واحدة تحكي عنه.. بلا زوجة.. بلا أولاد يقولون على الفيسبوك هذا أبي.

جورج قرمز، إسم حركي لثلاثة أو أربعة فصول شتاء مرّت على فلسطين وشطفتها من القاذورات قبل أن تتراكم من جديد.