بلا أدلّة ولا شواهد ولا قرائن، يستمر لفيفٌ من الصحافيين والكتّاب المصريين بالتجنّي على الفلسطينيين؛ أفرادًا وفصائل. الإرث الضخم لعقود الإفساد العقلي الذي انتجه نظام (السادات/مبارك) لا زال يفعل فعلته في المشهد السياسي المصري ما بعد الثورة. إذا كان حبيب العادلي الذي وقف بعد تفجير كنيسة القديسين في الاسكندريّة ليتّهم «جيش الاسلام الفلسطيني» قد خُلع وأودع السجن واتّضح زيف ادعائه، فإن أمثاله ما زالوا طلقاء في فضاء السياسة والإعلام مؤكدين أن مصر كانت ويجب أن تبقى«محروسة» من الغرباء ذوي اللهجات الفجّة.
في عددها الصادر يوم السبت 16/3/2013، نشرت مجلّة «الأهرام العربي» ما اعتبرته انفرادًا واختراقًا صحفيًا. المجلة كشفت –وفق ادعائها- أسماء المتورطين في مجزرة الجنود المصريين على الحدود المصرية-الفلسطينيّة في التاسع عشر من رمضان الفائت. الأسماء شملت ثلاثة من قياديي الصف الأول في كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع المسلّح لحركة «حماس» هم محمد أبو شمالة ورائد العطّار وأيمن نوفل. القارئ للتقرير سيجد أنّه لا يعدو كونه موضوعًا إنشائيًا بائسًا ورديئًا يستعين من كتبه بشهادة لا شهادة فيها للمجنّد الناجي من «المجزرة»، المجنّد الذي لا ذكر لاسمه ولا اشارة فيما تمّ اقتباسه عنه لحماس أو لعناصر فلسطينيّة.
تسمية عناصر القسّام الثلاثة، وفق ما يرد في التقرير، جاء بناءً على معلومات قدمها «مصدر رفيع» للمجلّة. هذا المصدر الرفيع المموّه الذي لا وجه له ولا اسم يكون تارة من جهاز المخابرات العامّة المصرية، وتارة مسؤولاً «رفيعًا» في حركة حماس. تمعن المجلّة في استغباء القارئ إذ هي تشير أن تحقيقاتها أثبت أنّ «حماس» تتقاضى رسومًا على المواد التي تدخل غزّة من الأنفاق المنتشرة على الحدود، وأنّها –أي الأنفاق- تعتبر مدخلاً للمخدرات القادمة من لبنان إلى مصر. في معرض التعليل، تؤكد المجلّة أن السبب وراء المجزرة هو الانتقام من الجيش المصري لهدمه الأنفاق. نحن، إذًا، أمام نتاج خيال ضحل ومريض لصحفيّ غير متّزن.
تقرير «الأهرام العربي» كان نقطة انطلاق لما يشبه حملةً من الأخبار المستندة إلى «مصادر رفيعة» والتي يَجمع بينها إتهام الفلسطينيين، وتخلو في عمومها من أيّ دليل فعليّ، ويُغيّب الشقّ المتعلق بنفيها من المشهد في طقس إعلاميّ مغرض. صحيفة «الوطن» المصريّة كانت قد نشرت خبرًا مستندًا إلى مصادر «رفيعة» المستوى يفيد باعتقال سبعة فلسطينيين في مطار القاهرة وبحوزتهم خرائط لمنشآت عسكريّة بينها وزارة الدفاع المصريّة. اتّضح لاحقًا أن الفلسطينيين لم يحملوا أيّ مستندات متعلقة بمصر ولا بمنشآتها، وأنّ ما كان بحوزتهم كان رسومات تخطيطية لمساحات داخل قطاع غزّة، وثلاثة كتب إيرانيّة تلقّوها كهدايا أثناء وجودهم في إيران. الفلسطيني، على ما يبدو، متّهم لمجرّد كونه فلسطينيًا.
على نفس اللحن البائس عَزفت وتعزف وسائل إعلام مصريّة. صحيفة «الشروق» كانت قد أوردت خبرًا يفيد بأنّ وزير الدفاع المصري أصدرًا قرارًا بتغيير الزيّ الرسمي للقوات المسلحة في السويس خشية من عناصر مندسة بعد أنباء عن محاولات تهريب أقمشة تستخدم في صناعة زيّ الجيش الرسمي إلى غزّة. لم تكلّف الصحيفة نفسها عناء البحث ولم تحترم قارئها لتخبره أن قرار تغيير الزيّ الرسمي للقوات المسلحة المصريّة صدر في فبراير الماضي، وأنّ تطبيقه تمّ في المنطقة العسكريّة المركزيّة، وأن لا علاقة له، لا من قريب ولا من بعيد، بفلسطين والفلسطينيين. بل أنّ الاسفاف وصل إلى درجة أنّ وكالات أنباء مصريّة أوردت خبرًا يفيد بضبط 600 كتاب فلسطيني في نفق الشهيد أحمد حمدي عليها شعار وزارة التربية والتعليم الفلسطينيّة. مصر،وفق منطق البعض،يتهددها خطر القراءة!
الاصطفاف يوسم المشهد السياسي المصري. انتزع المصريّون بثورتهم السياسة من يد النظام ونخبته الفاسدة وأطلقوها في الشوارع والميادين. المطالب العادلة للثورة المصرية، كما لكل الثورات العربيّة، لابدّ لها أن تتسق مع عدالة القضيّة الفلسطينيّة وتدفع في اتجاه إيجاد حلّ عادل لها. يكبّل تلك الحتميّة إصرار بعض يتامى عقليّة «السيستم الواقع» على المضيّ قدمًا في إعادة إنتاج ما دأب النظام السابق على انتاجه. لمواجهة ذلك وصدّه يبدو شعار «آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز» اليوم ملحًا أكثر من أي وقت مضى.