الدكتور عادل الأسطل/غزة
منذ يوم الجمعة الفائت تعهّد الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" خلال كلمته بمقر الهيئة العامة للأمم المتحدة، بالالتحاق بمئات المؤسسات الدولية وعلى رأسها محكمة الجنايات الدولية، من أجل محاكمة قوات الاحتلال الإسرائيلي على جرائمها ضد الإنسانية، وملاحقاتها جنائيًا، من خلال مساعدة المجتمع الدولي، وذلك في أعقاب عدوانها ضد المقاومة والسكان الفلسطينيين داخل القطاع، حيث أقدمت على إراقة دم ما يزيد عن 2200 شهيد، وأكثر من 11 ألف جريح، وتدمير مئات المنازل والمدارس والمؤسسات الصناعية والمستشفيات، والبنى التحتية بشكلٍ عام.
وكانت حركات المقاومة الفلسطينية، قد أبدت دعمها صراحةً لمساعي الرئيس "أبومازن" وعلى رأسها- حركة المقاومة الإسلامية حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، بعد أن أقدم كل من رئيس مكتب حركة حماس "خالد مشعل"، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي "رمضان شلح" على التوقيع على وثيقة بهذا الخصوص، وأيّدت حركات مقاومة وجهات سياسية وقانونية وحقوقية وأكاديميّة أخرى.
وأيضاً شخصيات من مؤسسات رسميّة وأهلية أيدت هذا التوجّه، حيث كان "أبومازن" ينتظر مثل هذه التوقيعات وتلك التأييدات، كي يكون لديه سنداً فلسطينياً كاملاً، يكون قوة أمام المجتمع الدولي، وشهادة أمام المحكمة الدوليّة على جرائم الاحتلال، وفي نفس الوقت، أن ينأى بنفسه بعيداً عن أيّة جدالات أو انتقادات في هذا الخصوص قبل أو أثناء أو بعد ذلك التوجّه.
صحيح أنه من المفروض قانونياً وأخلاقياً، تقديم كل يهودي أو إسرائيلي ساهم في إيذاء الفلسطينيين أمام القضاء الدولي، أيّاً كانت صور ذلك الإيذاء، ولكن في ظل مجتمع دولي منافق للغاية باتجاه العرب بشكلٍ عام، وضعيف جدّاً أمام إسرائيل على وجهٍ خاص، فإن من المستبعد أن يتم ذلك التوجّه بالصورة التي نتوخاها كعرب تحت الهيمنة الأمريكية والغربية أو كفلسطينيين لا زالوا تحت نير الاحتلال.
وحتى حين تقديم أوراقنا الثبوتية بكامل الجرائم لا تنقص منها واحدة، فإن ذلك لا يعني أن إسرائيل ستقف مباشرةً بين يدي المحكمة الجنائية، وحتى في حالة الوقوف، فإن أحداث المحاكمة لن تكون قصيرة أو أن تكون قضائية أو مهنية بالمعنى المطلوب، بسبب أن المحكمة ستكون عاجزة، أو لن تكون من صلاحياتها، توفير كامل العدالة التي يستحقها الفلسطينيين.
ناهيكم عن الأثمان والتكاليف الباهظة التي ستكون مسبقة الدفع لتغطية نفقاتها والتي ستتوضح آثارها على الوضع الفلسطيني العام. وكنّا قد رأينا عدم استطاعتها أو جديّتها، في إتمام سعيها بشأن محاكمة الرئيس السوداني "عمر البشير" على الرغم من إصدارها مذكرة اعتقال بحقه في 4 مارس/آذار 2009، وبناءً على قرار صدر من مجلس الأمن والذي يحمل الرقم 1593، منذ أواخر مارس/آذار عام 2005، بضرورة تقديم قادة سودانيين أمام المحكمة، بتهمة اقترافهم جرائم حرب، بينما سعت سعيها في محاكمة الرئيس اليوغسلافي السابق "سلوبودان ميليوسوفيتش" والذي عُثر عليه ميتاً في سجنه في مارس/آذار 2006، قبل إتمام محاكمته، والحادثتين على سبيل المثال كانتا خاضعتين لدواعٍ سياسية.
وعلاوةً على ذلك، فإن هناك محددات وعوائق من شأنها عرقلة أيّة مساعٍ في هذا الاتجاه، ومنها: أنه في حال الذهاب إلى المحكمة، فإنه يتوجب علينا الاستعداد ليس للتهديدات الإسرائيلية وحسب، بل للتهديدات الأمريكية والأوروبية، والتي ستتضمن تراجعات مختلفة في المواقف المؤيدة للقضية الفلسطينية، أو بمحو قائمة المساعدات المالية، إلى جانب تقليص التفاعلات في علاقاتها المختلفة مع الفلسطينيين، سيما وأن تلك الدول قد شرعت مبكراً، في تغيير بعض نصوص قوانينها، لتجنب الإحراج الذي يمكن حصوله، في مسألة تقديم شكاوى ضد إسرائيليين، برغم الأثمان التي دفعها الفلسطينيون مسبقاً بناءٍ على اتفاق أوسلو وما بعده.
وبالمقابل فإن لإسرائيل، المقدرة على تقديم شكاوى في نفس اللحظة ضد قادة فلسطينيين وبخاصة قيادات في السلطة وضد قادة المقاومة الفلسطينية بشكلٍ خاص، سيما وأن إسرائيليين قد أعلنوا بأن لا خشية لديهم من وقوفهم أمام القضاء، وأن على الفلسطينيين حمل أوزارهم.
وبرغم أن هناك حججا قانونية عديدة وقوية يمكن استعمالها لبيان الفروق، إلاّ أن الجانب الإسرائيلي سوف يكون له الميزة لدى قُضاة المحكمة بناءً على المشيئة الأمريكية والغربية، سيما وأن الفيتو الأمريكي متواجد في كل زمانٍ ومكان لتلك المهمّة. كما أن انسحاب إسرائيل من ميثاق روما سيعمل على عرقلة المساعي الفلسطينية وعمل المحكمة بالذات.
يجب علينا الاعتراف، بأن المحاكمات الدولية، دائماً ما تكون ذات طابع سياسي بحت، بسبب أن المدعي العام الدولي ومجلس الأمن تابعين للولايات المتحدة وإسرائيل، بما يعني أن ليس هناك شيء اسمه عدالة دولية بالنسبة لنا كفلسطينيين على الأقل، وبالتالي فتهديداتنا لن يكون لها أي تأثير وإن في هذا الوقت.
إلاّ أن ما سبق كلّه، لا ينفي أن يكون للتوجّه نحو المحكمة، مردودات وفوائد وإن كانت جزئية ورمزية في آنٍ معاً، ومنها: أن مجرّد وصولنا إليها والتعامل معها هو في حد ذاته كسب، ووجودها ولو بعد حين، أفضل من ترك قادة الاحتلال طليقي الأيدي من غير رادعٍ أو زاجر، ويمكن اعتبارها ورقة تحِد من الأنشطة العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في المستقبل.