تشكل البطالة إحدى أهم التحديات للمجتمعات الحديثة في العالم أجمع، وهي بنظري المشكلة الأهم والأصعب بعد الاحتلال لمجتمعنا الفلسطيني. وهي بلا شك تثير مخاوف من هم في موقع المسؤولية عن الإقتصاد والتنمية.
تشير الأرقام والإحصائيات الصادرة عن "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني" في رام الله، إلى أنَّ سمة المجتمع الفلسطيني هي الفتوة حيث بيَّنت هذه الارقام أنَّ نسبة الشباب (للفئة العمرية من 15- 29 عامًا) في الضفة والقطاع بلغت حوالي 29.6 في المائة من إجمالي السكان البالغ عددهم 4.17 مليون نسمة. منهم 40.2 في المائة في الفئة العمرية (15-19 عامًا) و59.8 في المائة في الفئة العمرية (20- 29 عاماً).
من جهة أخرى، أظهرت الإحصائيات أنَّ ثلث الشباب الفلسطيني يعانون من البطالة. وبينت: إنَّ 33.9 في المائة من الشباب الفلسطيني (15-29 سنة) يعانون من البطالة في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال الربع الأول لعام 2011. كما بلغ معدل البطالة بين الخريجين الشباب 45.5 في المائة خلال الربع الأول 2011.
من هنا فان المتفحص لهذه الارقام والبيانات لا بد أن يصاب بالخوف والجزع حيث أن الارقام لا تظهر تحسناً في نسب التشغيل والحدّ من البطالة، بل على العكس من ذلك فإننا منذ قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية وبدء تدخل المانحين انشغلنا بإعداد الكثير من الدراسات والآلاف من الصفحات التي تمّ تمويلها من أموال الدعم المخصصة للشعب الفلسطيني لمحاولة تشخيص المشكلة وصياغة الحلول لها.
ولكنني أستطيع القول ودون تردد أن كل جهود القائمين على التشغيل وكل أموال الدعم التي صرفت في هذا المجال كانت دون نتيجة حيث ما زال الشباب يعاني من نفس المشكلة، وما زالت جامعاتنا تُخرّج كلّ عام الآلاف ممن يلحقون بسوق البطالة بشكل أو بآخر، في الوقت الذي ما زال فيه "جهابذة الفكر الاقتصادي" يبحثون عن الحلول.
لماذا لا نعترف ان اقتصادنا بوضعه الحالي ما زال وربما سيبقى عاجزاً عن استيعاب جيوشٍ جديدة ما زالت تزحف علينا من الخريجين؟ ولماذا لم يبادر أحد من القائمين على جامعاتنا الفلسطينية باعادة توجيه بوصلة الشباب إلى تخصصات تحاكي سوق العمل المحلي والعربي؟ ألم يصل مجتمعنا الى درجة الاشباع من تخصصات الهندسة والطب وتكنولوجيا المعلومات والإدارة وغيرها من التخصصات التي أصبح الكثيرون من حاملي شهاداتها وأهاليهم يندبون حظهم على المآل الذي وصلوا اليه؟
أما بالنسبة للقائمين على ملف العمل والتشغيل فنقول لهم" ألم تصلوا بعد إلى القناعة أنكم فشلتم في مهمتكم، وأن كلّ ما تقومون به من دراسات وتشخيص للواقع ما عاد يصبُّ في الاتجاه الصحيح؟ أما زلتم تعتقدون أن تشغيل مئة أو مئتي خريج لشهور معدودة تحت مسمّيات برامج مختلفة وضمن مشاريع ومبادرات قامت بتمويلها بعض المؤسسات المانحة، انجازٌ يستحق التغني به على صفحات الجرائد وعبر محطات التلفزة والاذاعات المحلية؟
ألم تصلوا بعد إلى قناعة أن شبابنا بحاجة إلى ما هو أهم وأعمق من ذلك من حلول جذرية تراعي خصوصية اقتصادنا الوطني والاقتصادات المحيطة بنا؟ أين أنتم من تشجيع المبادرات الريادية وانشاء المشاريع الصغيرة التي كانت وما زالت الرافعة الحقيقية التي نهضت وتنهض بها الدّول والشعوب؟ أما زلتم تعتقدون أن العشرة بالمئة من شركات القطاع الخاص التي تحصد 90% من الأرباح هي الدعامة الرئيسية والطريق للقضاء على وحش البطالة الذي يقضي على آمال الشباب؟
ولا يفوتني هنا المرور بشكل أكثر وضوحا على أموال الدعم المخصصة لتنمية الشباب والتي أصبحت تملى علينا أوجه صرفها في مجالات لا تخدم مجتمعنا وقضيتنا، بل ربما أذهب الى ما هو أبعد من ذلك وأقول أن هذه الأموال لم يعد الجزء الأكبر منها يستخدم وينفق إلا لتنفيذ أجندات غريبة على مجتمعنا وأبعد ما تكون عن همومنا اليومية. هذه الأجندات لم تعد خافية ومعلوم لنا أنها لا تخدم لا شبابنا ولا اقتصادنا الوطني في توفير فرص العمل والحدّ من الفقر والبطالة.
ومن هنا فإنني أرى أنه أصبح لزاماً على كافة مؤسساتنا ووزاراتنا والقائمين على شؤون العمل والتشغيل والشباب، وقبل أن تنفجر هذه المشكلة في وجوهنا، أن يعيدوا حساباتهم ويبدأوا على الفور عملية تغيير جذرية تبدأ من أُسرِنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسسات الاقتصاد الوطني المختلفة بحيث تقوم على الأسس التالية:
أولاً: اعادة رسم ثقافة المجتمع الفلسطيني من حيث ضرورة الابتعاد عن توجيه أبنائهم وبناتهم الى التخصصات الاكاديمية وتشجيع الاستعاضة عن ذلك بتخصصات مهنية يمكن لصاحبها الاعتماد على النفس وانشاء مشروعه الخاص أو الانخراط في اسواق العمل في مهن كانت وما زالت مطلوبة محليا وعربيا.
ثانياً: إعادة صياغة العملية التعليمية بشكل يساهم في تحويل مجتمعنا الى مجتمع منتج وتعزيز فكرة الريادة منذ الصغر في أذهان أطفالنا.
ثالثاً: أن تباشر جامعاتنا وعلى وجه السرعة باستحداث تخصصات مهنية جديدة في مجالات تتيح للخريجين منها العمل الخاص في مشاريع صغيرة بقومون بانشائها وتطويرها وتبقي الباب مفتوحاً أمامهم للالتحاق بالوظائف التي يمكن ان تنتج عن مشاريع يقوم غيرهم بانشائها. كما أن على جامعاتنا التوقف عن استقطاب الشباب للتخصصات التي لم نعد بحاجة اليها.
ولا شك أن معالجة البطالة هي مسؤولية اجتماعية وأخلاقية ولم تعد الحكومات وحدها المسؤول عنها ويتفق المهتمون بتنمية الموارد البشرية على أن التدريب المهني والحرفي هو المعالجة الأكثر أهمية، ووفق هذين الإعتبارين فإن المسؤولية تبرز أكثر في القدرة على دعم التدريب المهني والحرفي في قطاعات الصناعة والزراعة وقطاع الخدمات وغيرها من التخصصات التي لم تعط الاهمية اللازمة لدى العديد من مؤسسات التدريب المهني.