تسود الضبابية الموقف الآن في الأراضي المحتلة عام 1948 والضّفة فيما يتعلق بأفق تطور الأحداث، لكن من المؤكد أن أي هدوء يصيب الحالة الشّعبية ستتبعه حالةُ قمعٍ شديدة جداً من قبل السّلطة الفلسطينية والعدوّ الصّهيوني. إذا وقع الهدوء سيكون هناك جرد حساب طويل وصعب لكلِّ محاولات التمرد في الفترة السّابقة، والأسوأ أن المجتمع سيكون قد انكفأ على ذاته منتظراً مداً ثورياً جديداً فلن تنفع كلّ مناشداتكم وقتها ولا دعواتكم. ستتلقون وحيدين كلّ العقاب الذي سيرافقه نوع من الرشوة الجماعية للشعب عبر تسهيل الإجراءات وتخفيف القمع وتقديم الحوافز، هكذا كان يتعامل الاستعمار دائماً.
لكن كلّ مهتمٍ في الشّأن العامّ لا يملك إلا أن يتفاءل، ففي أسوأ الأحوال نقلتْ الهبة الجماهيرية الحالية الوعيّ الفلسطينيّ نقلةً نوعيّةً. هي تشبه تماماً هبة البراق التي أسست لثورة 1936، وتُشبِهُ هبّة النّفق التي أسست للإنتفاضة الثانية. القصد هنا أنه حتى لو لم تستمر الهبّة الحالية، وتأخذ تطورها نحو انتفاضة، ثمّ ثورة، فإنها ستكون على الأكيد قد أوصلت النّاس لضرورة الاستعداد لثورة ضخمة قادمة، ليكون التحضير لها تحت الأرض وبهدوء، وهذا النهج ستُعزِزُه إجراءات العدوّ التي ستدفع نحو تفريغ الضّفة والداخل من كلّ القيادات في الصّف الأول والثّاني والثّالث.
اليوم الأمور تتغير، اليوم يُخلق بشرٌ جديدون، اليوم يٌبعث أناسٌ لا يقبلون الدنية في دينهم ووطنهم، اليوم تُقلب الصّفوف ليصبح الآخِرون هم الأولون والأولون هم الآخِرون، والقيادات التّقليديّة المحليّة التي طالما ساومت ولم تكن بقدر المسؤولية في طريقها لفقدان مواقعها لصالح شريحة أوسع كثيراً تنظم نفسها أفقيا وبدون تمثيل. توجد اليوم في أغلب مناطق الاشتباك إجابة جديدة قديمة على سؤال "تنظيم المجتمع"، شبابٌ في مقتبل العمر بمجموعات عددية صغيرة تخترق الهدوء في مناطق الإشتباك لتفرض منطقها على القيادة التقليديّة، وفي تحالف قوي وإن كان جزئياً بين البرجوازية والطبقات الشّعبيّة. الأمر يقوم على مبادرات صغيرة من عدة أفراد لتتبعها استجابة فورية ودون تردد لأبناء المناطق للإنخراط في الاشتباك أما للدفاع أو للهجوم، هذا النوع من العمل الفوريّ أعاد تعزيز قيم فلسطينية عميقة ومتجذرة مثل "الرجولية والواجب"، وأعاد هذه الروح النّضالية الجماعية المسماة "الفزعة" وهي التي تدفع عشرات نقاط الاشتباك التقليدية أو المستحدثة للاشتعال يومياً.
هذا جوابٌ عبقريٌّ على سؤال التنظيم، العفوية لا تعني أبداً غياب التنظيم، بالعكس تماماً، ففيها من التنظيم والدقة أكبر بكثير من أي نوع آخر خصوصاً أنها تركز على تنظيم الاشتباك، وليس تنظيم الصّورة النهائية لتدفع لجعل تلك السّلوكيات تنتج أكبر قدر ممكن من الفائدة والانجاز ليصب مع كل أعمال المقاومة الأخرى في كلّ السّاحات في نهرٍ واحدٍ لتراكم الفعل والإنجاز للدفع نحو زيادة التّفاقم السّياسي والاجتماعيّ، ولاحقاً الإقتصاديّ للمجتمع.
هنا يظهر خللٌ عميقٌ جداً في أنماط التفكير البرجوازي، فلطالما كانت البرجوازية الفلسطينية ترى أن دورها هو تعبئة الشعب من أجل المقاومة، دون أن يساهم أفرادها أنفسهم مساهمة جدية في النّضال. البرجوازية تختلف تماماً في طريقة تفكيرها عن الطبقات الشعبية (هذا توصيف وليس دعوة للإهانة). لتوضيح ذلك بطريقة مبسطة، أذكر أنه عندما تزوجت أختي من ابن عمي كانا طالبين في الجامعة ولا يملكان أي وظيفة أو منزل والمستقبل غامض تماماً أمامهما، لكن بعد أسبوع من الخطبة أعددنا لهما غرفة في بيت العائلة وتزوجا.
روح المغامرة هذه التي تتقن تماماً استغلال الإمكانيات المتاحة والمتوفرة للوصول إلى الهدف هي ما ستدفع إلى تفاقم الأمور وإلى استمرار الهبة وتطورها، لكن البرجوازيّ مثلاً مستحيل أن يتزوج دون أن تكون قد توافرت له كلّ الظروف الذاتيّة والموضوعيّة والتخطيط لعشر سنوات مقبلة لحياته وتوافر بيت ووظيفة وسيارة، وهذا النمط من التفكير وأسلوب الحياة لا يجعل البرجوازية قادرة على قيادة الأمور، لذلك لطالما سمعنا مقولات أن "الشّعب دائماً يسبق القيادة"، وطبعا القيادة هم بمجملهم من البرجوازية أو ممن يتشبهون بها. لذلك بدأت تظهر أحاديث عن ضرورة صياغة مطالب قابلة للتحقيق لاستثمار الهبة الحالية من قبل هؤلاء.
هنا نُذكر أنه من المفترض الذهاب إلى نقاش مجتمعيّ كامل انطلاقاً من ساحة الاشتباك، بحيث يكون هدف النقاش تحديد أهداف للمواجهة لا مطالب. والهدف الرئيس هو ضرورة استمرار الاشتباك ولو بوتيرة منخفضة، أحيانا تعلو كثيراً وأحيانا تعود لنفس وتيرتها المستمرة. أما الحديث عن "مطالب" فعادة ما يتبعه مباشرة الحديث عن التمثيل، أي سؤال "من يُمثل الشعب ويتحدث باسمه؟"، والحديث عن التمثيل تتبعه مباشرة ممارسة سلطة على الجموع الحقيقية التي تمارس الاشتباك، وممارسة سلطة آو امتلاكها سيدفع مباشرة للمساومة، والمساومة ستعيد إنتاج ما سبق بوجوه جديدة وأعمار صغيرة.
البرجوازية هنا ستصبح هي المحافظة وليكون هذا دليل على أن الفلاحين والطبقات الشّعبيّة هم الطبقات الثورية الحقيقية، فكما قلنا تلك الطبقات اليوم تبتدع أساليبها في التنظيم بطريقة أفقية بحتة قادرة على توسيع الاشتباك وقادرة على احتواء كلّ من يريد الانضمام. لكن هذا النوع من التنظيم لن يروق للبرجوازية التي ستُحاول إعادة تنظيم المجتمع كما كان يتم سابقا عن طريق وضع مطالب وتحديد أفق مرئي وقابل للتحقيق في فترة قياسية وبشكل مركزي. لذلك سرعان ما سيبدأ الحديث عن أيام غضب وأيام مركزية ستعيد للقيادات المحلية التقليدية مواقعها التي تخلخلت في الفترة الحالية. سينتج هذا لاحقاً قيادةً مركزيّة ستجهض حتماً الفعل الشّعبيّ الحاليّ ببساطة لأن هذا التوجه من البرجوزاية لتحديد مطالب مركزية، يشتمل على مصادرة للمسؤولية الفردية عن كلّ فرد ليصبح بدلاّ من فاعل في المواجهة مجرد متلقٍ ينتظر ماذا قرروا. بالملخص الحديث اليوم عن أي مطالب مرفوض قطعا والحديث عن أي فعل مركزي وأيام غضب أيضا مرفوض والحديث عن قيادة مركزية ستعيدنا لنفس المربع وسنخسر ما قدمنا من تضحيات.
ملاحظة: استخدام مصطلح برجوازية في التدوينة هنا غير دقيق، لا توجد في فلسطين برجوازية بمعناها الكامل، بل هي طبقة متشبهة بالبرجوازية الاستعمارية، لكن استخدمت المصطلح كتوصيف لطبقات أو شرائح مجتمعية من المثقفين والأغنياء والتّجار وأصحاب المصالح والموظفين.