رغم إعلان قادة العدو هدفاً للعمليّة العسكريّة الحاليّة يتمثّل في وقف إطلاق الصواريخ من غزة؛ يقرّ هؤلاء أن القضاء على كلّ حفرة صواريخ في غزّة هدف مستحيل. وهنا يكون مجال الجهد العسكريّ الصهيونيّ هو إقناع الفلسطينيين بفداحة ثمن إطلاق الصواريخ وتحدّي "إسرائيل"، والتسليم بالوضع الحالي الذي تُحاصَر فيه غزّة وتتواصل فيه المحاولة لمنعها من التسلّح والحياة.
لا يمكن لغزّة قبول استمرار التهدئة في ظلّ الحصار الذي يخنقها، و هي تخوض هذه الحرب لإحداث خرق في هذا الحصار عبر طرح العودة لشروط تهدئة عام 2012 كمدخل لأنهاء المعركة وعودة الهدوء النّسبيّ الذي كان قائماً منذ انتهاء معركة نوفمبر 2012.
القتل التأديبي
يدرك الفلسطينيون أنّ هذه الحرب لن تنتهي بإزالة الكيان الصهيوني، ويدرك عدوهم أكثر أن فرصة القضاء على المقاومة وإزالة التهديد الذي يمثله رفض أغلب الفلسطينيين لوجود "إسرائيل"محدودة، ويقاتل الطرفان لإنهاء القتال بالشروط التي تسمح لكل واحد منهم بتحسين فرصته في جولة القتال التّالية. في مثل هذا النوع من الحروب يدور القتال داخل البشر بقدر ما يدور حولهم وربما أكثر، فلا توجد أهداف عملانيّة واضحة ليحققها أيّ من طرفي القتال؛ تتعلق بتدمير قوات الخصم أو تكليفات لمجموعة من القوات بالسيطرة على الأرض، وتبقى المحاولة هي إفقاد الخصم الرغبة في مواصلة القتال.
وفي هذا الإطار؛ تتشكّل العمليّات العسكريّة الصهيونيّة كمجموعة من العقوبات وعمليات الإخضاع، أكثر من كونها تكتيكات قتال، فلقد تم تحديد عقوبة العاملين في منظومة إطلاق صواريخ المقاومة بالموت، وقصف لعشرات البيوت لمن اُعتبروا ضالعين في المقاومة؛ في محاولة لوضع ثمن شخصيّ رادع للفلسطينيّ الفاعل المقاوم، إضافة لذلك ترتكب القوّات العسكريّة للعدو يومياً عمليّات قتل للمدنييّن من غير الضالعين في المقاومة كنمط من العقاب الجماعيّ.
عدونا يدرك أنّ قصف بيتك لن يعطل قدرتك العمليّة على إطلاق الصاروخ أو التخطيط لإطلاقه، كما يدرك أنّ قتلك لن يوقف محاولة آخرين لإطلاق الصواريخ، وبعمق أكبر يسلّم بأن تدمير كل صاروخ في غزّة غير كافي لضمان عدم تجدد إطلاق الصواريخ بعد أيّام أو أسابيع؛ لذلك تتركّز محاولته على إقناع المقاتل أو الآمر في منظومة المقاومة بأن يتردد ألف مرّة قبل أن يقوم بهذا الفعل. منظومة التأديب هذه، لا تقتصر على المقاتلين فحسب؛ بل تطال سكان غزّة ككل؛ فارتكاب المجازر اليوميّة بحقّ الأطفال والنساء يدرك كلّ ضابط في جيش العدو أنّ لا علاقة لها بقدرة أيّ قوّة عسكريّة على القتال؛ ولكن يحاول بكلّ جديّة إقناع هذا الجمهور أنّ استمرار جزء منه في القتال؛ يسبّب القتل للبقيّة.
كيف تتجنب رصاصة العدو؟
تتركّب الهزيمة في الحرب التقليديّة من تكرار خسارة مواقع مهمّة لمصلحة العدو، أما في حالتنا؛ فنحن المواقع التي يجب التشبّث بها، وتكون الهزيمة عبر تراكم نجاح العدو في إخضاع أشخاص منا، هذا الخضوع يبدأ في اللحظة التي تبدأ في تشكيل الأساطير والأوهام حول كون خصمك وحش مجنون يضربك كلما غضب وتبدأ بالشكوى من جنونه، هذه الشّكوى التي تدرك أنت بأنّها لن تجدي نفعاً، هي بداية لانزلاق التفكير إلى كيفية تلاشي غضبه بأيّ ثمن، وبذلك يكون قد سقط موقعك، هذا الموقع الذي لا يتكون إلا منك أنت. إنّ الخوف في ظل هذا القصف والقتل اليومي، هو شعور بشريّ طبيعيّ، ولكنّ العبثيّ والمدان هنا، هو الحرص على إدانة الشجاعة التي يبديها قطاع من هذا الشعب، وتسخيف مقاومته؛ للخضوع وتوجيه سلوك الجمهور ليتخلى عن كل ما يعينه على البقاء في هذه الظروف، بالإضافة لاستحضار تقاليد الذعر والإمعان في إظهارها لاستجداء العالم والإصرار الأرعن على أنّ هذا العالم حقاً يكترث إذا عرضت المزيد من أشلاء ابنائك ودموعك، فهذا هو بالتأكيد حرص على الهزيمة وأداة لها.
في ذات السياق، ولكي تعطي عدوّك ما يريد، لابدّ أن تفهم أولاً ما يريد منك، وهذه تقريباً وظيفة التحليل السياسي في بلادنا؛ شرح مطالب العدو، فكلّ ما يطلبه العدو هو الهدوء، وقومك" مشعل – حماس- شّلح – المتطرّفون" هم من يصرّ على الحرب؛ لرفع الحصار وترميم وضعهم، و بمواجهة قذائف العدو تستحضر الرّقة ويبدأ التفجّع على مشاهد الشهداء والجرحى، بموازاة ذلك، يعيد المختصون بإنسانيتنا تعريف المعركة؛ فيصبح القتال على كم صورة حقيقية لأشلائنا يجب أن نريها للعالم حتى يتعطّف بوقف ذبحنا، وتبدع أقلام رخيصة تكتيكات كتابية تفرز وتتنكر لكل حامل للبندقية، وتنوح على المدنيين الأبرياء مساوية بين كل مطلقي النّار أعداء ومقاومين في الفناء الإنساني الجميل الذي يرسمه القلم المرتزق، وفي موازاة القصف تبدأ نخبة من مجتمع مدنيّ هزليّ في تقديم نقد فنّي لتكتيكات المقاومة في القتال، وهو الشيء الذي لم تفكر يوماً في ممارسته.
الثمن الباهظ للاستسلام
تسود تلك التنظيرات التي تتحدث عن الثمن الباهظ للحروب، ولكن قليلة هي تلك التنظيرات التي تتناول الثمن الأكثر فداحة للهدوء، أو بالأصحّ للتقاعس عن خوض المعارك الضروريّة للحفاظ على وجودك، وفي حالتنا بالذات، تغيب باستمرار فكرة أن هناك حرب دائرة بالفعل، ولم تتوقف منذ ما يزيد على مئة عام، وأن القتال الحاليّ، ما هو إلّا معركة ضمن هذه الحرب، وأن اختيارك لعدم خوض هذه المعركة، لا يعني أكثر من موافقتك على الهزيمة في هذه الحرب الطويلة التي فرضها المستعمر والمشروع الصهيونيّ بمجرّد وجوده على أرضك. الجانب الإيجابي في الصراع مع المشروع الصهيوني وفي هذه المعركة، هو أنّ المطلوب لتحقيق النصر أقل بكثير من الجهد الحثيث المطلوب لابتلاع الهزيمة، فيكفي أن ترفض وجود عدوّك وترفض إعلان خضوعك، وأن تتذكر وجوه الشهداء أحياء مبتسمين لا أشلاء مقطّعة. هذا يتأتّى من الإدراك أنّ هذه حربك أنت، وإن لم يرقك موعدها أو خيارات رفاق الخندق فيها أو أغضبك ضعف براعتهم وأزعجك شكل لحاهم أو برنامجهم الاجتماعي، ويقينك أنّ كلّ طلقة يطلقها العدو؛ تستهدف عقلك أولاً ورغبتك في القتال؛ وتطلب منك إشهار الاستسلام. وأن الاستسلام لا يمكن أن يجنّبك الموت، أو يجنب أحد من أعزائك هذا المصير عاجلاً أو آجلاً، وأنّه حتى لو اخترت الاستجابة لأكثر نزعاتك أنانية وتفردًا؛ فإنّ الارتجاف والاستجداء لن يقنعا العدو باستثنائك؛ فعلى الأقل، يستحق الأمر أن توفر هذا المجهود "المازوخي" وغير المجدي.
قد يبدو كل هذا الحديث محاولة لتنظير واستعراض لراديكالية مشتهاة، وقد يكون هذا صحيحًا لولا أنّ تاريخ هذه المنطقة يحكي -حتى بأسوأ رواياته وأكثرها انحيازًا للعدو- أنّ المشروع الصهيونيّ لم ينتظر وجود مقاومة فلسطينيّة ليبدأ حربه لاقتلاعنا وتهجيرنا في العام 1948 وما قبله، وأنّه في دير ياسين لم تطلق رصاصة واحدة ولم يرفع سكين، وأنّ فريق التسوية ونبذ العنف في فلسطين، يُقرّ ليل نهار بفشل مشروعه وغياب أيّ إمكانيّة للتسويّة مع هذا العدو.