كانت الصورة بأوضح حلّة لها، لا غبار عليها، هي هذه التي يُفرز فيها الشارع فرزاً كامل الوضوح، شيخ بعمامة، جعير تاجر مخدّرات، مفتي جامع الجزّار وتاجر، جميعهم يقفون ما بين كوفية تغطّي وجهاً غاضباً، وأدرع استعمارية تُبرز وجه مُستعمِر. نعم، ثلاثة صفوف، قد رُصّت بهدف المواجهة، شباب غاضب، ممثّل تنسيق أجهزة الأمن الإستعمارية، وقوات مدجّجة بالسلاح. دروع بشرية تدّعي العقلانية، تقف ما بين متظاهر غاضب ومُستعمر مدجّج بالسلاح ينتظر رهانه الأخير.
سرعان ما فهمت "إسرائيل"، أن الداخل الفلسطيني والقدس على الطريق باتجاه إنتفاضة ثالثة، وكان الأصعب أن تحليلاتها وسياساتها التي استندت إلى القوة في المرحلة الأولى قد فشلت. وسرعان ما لاحظت، أن الجيل الحاليّ، الثالث للنكبة، لم يعد يركع للقوة، بل كان الردّ أكثر وضوحاً، إبداعاً وعنفاوناً، فانطلق الشباب من الحجر إلى الألعاب النارية، ومن الألعاب النارية للمولوتوف، ومن المولوتوف لسكك قطار تشتعل. واتضح أن المزيد من القوة من جانب المُستعمِر، كفيل بإشعال الإنتفاضة، لا إخمادها وهنا أراد الجهاز الإستعماريّ أن يتوجه لرهانه الأخير، مراهناً عليه في إخماد نار الغضب التي اشتعلت، راسمة حدوداً جديدة، يخطّها مُلثّم.
الرهان الأخير، تمثّل على أرض الواقع، في مدينة عكا، حيث باشر المتظاهرون وتحت هتاف:"عالشوارع يا ثوار" بالنزول للشوارع، وكان التوجه سريعًا نحو البلدة القديمة. لم تقابل الشباب الغاضبة قواتُ الشرطة على مدخل المدينة، بل بعض تجّار المدينة هلعين غاضبين يطلبون من المتظاهرين الخروج من عكّا.
لم تستهلك الشباب الغاضبة الكثير من الوقت لتغيير المسار منعاً للإشتباك مع أهل البلدة، ولتتوجّه وسريعاً نحو الأحياء اليهودية في المدينة، هناك بدأت تتراكض قوات الشرطة لتُغلق الشارع أمام المتظاهرين، ومع منظر الشباب الذي سارع بارتداء كوفية قد وُضعت على الأكتاف، تقدّم ذو العمامة، داعياً الشباب للرجوع عن ما أعلنوه غضباً ورفضاً، كان هذا المنظر والذي لا غبار عليه، كفيل بأن يكون خارطة سياسية كاملة.
تقدّم الشيخ ذو العمامة، طالباً من المتظاهرين التراجع للخلف، وقف الشيخ بين المتظاهرين والشرطة، وبإيعاز من الشرطة مستعيناً بمكبّر صوت أعاره إياه الضابط طالباً منهم العودة والتراجع. بينما، وقف خلفه ضابط يحمل جهاز لاسلكي، ينتظر ما ستؤول إليه الأمور، هل سينجح المفوّض بإنقاذ "إسرائيل"؟ منتظراً، وقف على جاهزية تامّة لإعطاء الأوامر، كمُراهن مضغوط ينتظر رهانه الأخير.ولعل حادثة عكّا، لم تكن بالمُحبطة بقدر ما كانت بالـ"كاشفة"، لسياسة استمرت بقيادة وزير داخلية الإحتلال فيما بعد. خلف هذا الشيخ، قوات مدجّجة وضابط ينتظر، ينتظر أن ينجح شيخه الجليل بما كُلِّف به، أو يفشل. والفشل حتميّ في مثل هذه الأوقات، ولعل نجاحه لن يكون إلّا عيني، مؤقت يتبدّد أمام إصرار الجماهير.
لعل ما حصل في عكّا، نموذج لسياسة إسرائيلية قد اتبعتها لإخماد حريق يشتعل تحت أقدام المستعمرين. فسريعاً وبعد ما شعر حكّام الكيان الغاصب، بالنيران تمتد، وبمُلثّم يمزّق أوسلو على مفارق البلدان العربية في لب فلسطين توجّه وزير داخلية الإحتلال، نحو الكثير من الشيوخ و"القيادات"، والمنتشرين داخل كل قرية وبلدة عربية، ليهادنهم ويفاوضهم على أن يكونوا أبواق للإستعمار، ويمنعوا الإشتباكات من الإستمرار بحنكة. كانت البداية من الناصرة، فمنع "علي سلّام"، رئيس بلدية الناصرة مظاهرة كان من المُقرّر أن تُقام في المدينة، وخرج بعدها "مازن غنايم"، رئيس بلدية سخنين ليُواجه من اشتبك مع الإحتلال على مشارف القرية. ووّقع موظفو السلطة على عريضة، يُنادون فيها الشباب بالحفاظ على "روح الجيرة والتعايش، ونناشد قوات الأمن بالقبض على مختطفي الفتى المقدسيّ محمد أبو خضير، لمنع تدهوّر الأمور" وختمت العريضة بالقول "سنتجنّد جميعاً للحفاظ على الأمور هادئة". هذا ما نصّت عليه العريضة التي وقّع عليها قرابة العشرين رئيس مجلس محليّ من قرى ومدن الداخل الفلسطينيّ.
بداية، إن ما مرّ ويمّر على الداخل الفلسطينيّ، في هذه الأيام أكبر من أن يُختصر بردة فعل على إعدام أبو خضير، بل هو نتاج تراكم، عنصرية وتهميش، له أبعاد سياسية وطنية أكبر من أن يتم اختزاله بردة فعل عابرة، فالإشتباكات ما زالت قائمة، وبشكل شبه يوميّ، وبالرغم من أنه لا يوجد مطلب واحد وواضح، إلا أن المطلب الذي نستطيع رؤيته بوضوح عبر قرائة سريعة للخارطة السياسية، هو الحياة الكريمة.
وهذا ما يستطيع الفلسطيني رسمه وتحصيلة عبر الشارع، وفقط الشارع.
أمّا بالنسبة لموظفي الدولة "رؤساء المجالس المحلية"، فهم ليسوا منتخبي جمهور، هم مُنتخبي الطائفية، ورأس المال، وليس الحركة الوطنية، لذلك طُرد بعضهم من المظاهرات، ورُشق البعض الآخر بالحجارة، ولا يُمثّلون سوى النهج العائليّ القبليّ الطائفيّ في البلدان العربية، أمّا الحركة الوطنية، فأعطت كلمتها الأخيرة عبر الشارع الذي انتفض في المُثلث والجليل.
إن خطّ الدفاع الإسرائيلي الأول، داخل فلسطين كان منذ البداية عبر التنسيق مع من يُسمّون موظفي السلطة، الإنتفاضة الثانية قد انتهت بعد موافقة موظفي السلطة، بالتهادن مع قوات الإحتلال مقابل زيادة في الميزانيات المُخصصة للمجالس المحلية في القرى والمدن العربية. وبالرجوع إلى الماضي، نذكر أن الإشتباكات مع قوات الإحتلال في قرية عبلين في أكتوبر 2000 قد انتهت عندما قرّر رئيس المجلس أن يحاكي الجماهير بأن الدولة قد خصّصت لهم ميزانية خاصة لترميم ملعب كرة القدم البلديّ.
بينما تفاوض بعض من نواب الكنيست مع قوات الأمن الإسرائيلية مقابل بعض الإستحقاقات السياسية العادية جداً. يأتي التفاوض في هذه الحالة، بين المُستعمر وموظفيه، أبواقه ومُمثِّليه ولعل التفاوض في هذه الحالة قد يكون بين المُستعمر وذاته، بين ما يستطيع تقديمه وما يستطيع مُمثليه إيصاله للجماهير بهدف التهدئة.
أمّا رجال الأعمال، التجّار والمتعاونون إقتصادياً مع الإحتلال فهم رهان "إسرائيل" الآخر عبر الضغط الإقتطاديّ، وتحويل أفواه رأس المال ضد الثائر الفلسطيني بحجة المُستهلك اليهودي رغم أن هذا المُستهلك، وبغض النظر عن كم الإستهلاك يبقى ضعيفاً مُقابل العربيّ. وقد علّق تجّار كفر ياسيف يافطة على مدخل البلدة كُتب عليها "كفر ياسيف مع السلام"، هذا هو الذي يمثل ذراع إسرائيل الإقتصاديّ للضغط على الشارع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة. قد يكون تأثيرهم بالضئيل، ولكنهم قائمون بخوف على مصلحتهم الشخصية المالية، ولعل التاريخ يذكر، أن رأس المال لم، ولن يكن حليفاً لأي قضية إنسانية عبر التاريخ فلا ننتظر منهم أكثر ممّا فعلوا.
يبقى للإشتباك داخل فلسطين التاريخية، وللإشتباك بحد ذاته داخل فلسطين له أبعاده السياسية الخاصة، والتي من شأنها أن تمزّق كل الإتفاقيات التي قامت على تقسيم هذا الوطن ولو لم تكن مطالب واضحة للإشتباك والإحتجاج. فمع كل حجر يُضرب، وكوفية تُخفي وجهاً غاضباً يُعاد رسم حدود هذا الوطن، ولعل استمرار الإشتباك داخل الأراضي الفلسطينية سيكون سبباً لإنهاء مرحلة الهزيمة التي فرضتها أوسلو وسلتطها، لهذا عليه أن يستمر، ويشتعل.
إن ما حاولت "إسرائيل" عبر عشرات السنين، أن تبنيه، من حسن جيرة وتعايش زائف، قد انهار بعد أسبوع من الإشتباك، أمّا القطار الداخليّ في القدس، والذي فشلت كل حملات المُقاطعة بالتأثير عليه كونه قد أُقيم على أراضي شعفاط، فقد استطاع الشباب في شعفاط تعطيله مع اليوم الأول للإشتباك. وبينما حاولت ولسنين حملة المُقاطعة أن تخفّف من توافد العرب على المتاجر الإسرائيلية، كان لأسبوع من الإشتباك أن يُعيد فرز القدس كما يجب، فكانت تلك الأيام كفيلة بتحطيم أسطورة التعايش، وبالأخص الاقتصادي.
عودة إلى مدينة كنفاني، عكّا، وما حصل فيها، عبر العين المجرّدة نستطيع أن نرى المشهد الحقيقيّ، خلف هذا الشيخ ذي العمامة، والتجّار يقف المُستعمِر على جاهزية تامّة للمواجهة، فما علينا سوى أن نستمر، نستمر لنتخطاه، وعندها سنكون نحن بأبها حلة قد نكتسي بها، لثام وحجر.