لم تنجح عملية خطف المستوطنين الثلاثة في إتمام صفقة تبادل مع العدو؛ إلا أنها نجحت في إتمام صفقة التبادل مع الفلسطينين أنفسهم، أعطتهم الأمل وأعطوها النزول إلى المواجهة، اشتعلت شعفاط مشكّلة بؤرة اشتباك لما حولها، وانتقل الغضب إلى بلدات وقرى الأراضي المحتلة عام 1948 مع مواجهات في مدن الضفة المتفرقة وصولاً لالتحاق غزّة في الاشتباك، إنها لحظة حضور فلسطين على مستوى الفعل نزولاً بها من سماء البلاغة، وكأنّ "أيام الاشتباك" هي الامكانية الوحيدة لتوحد فلسطين من نهرها لبحرها.

حول "أيام الاشتباك" أجرينا حواراً مع الأستاذ خالد عودة الله من القدس المحتلّة الباحث في العلوم الاجتماعية وفلسفتها:

-بداية لنتحدث عن زوبعة التشّكيك التي رافقت عمليّة خطف المستوطنين الثلاثة؟ هل كان للتشّكيك مبرراته أم أنه يندرج ضمن الدعاية النفسيّة المضادّة؟

توجد مجموعة ملابسات خاصّة بعمليّة الخطف الأخيرة؛ تحفّز مسألة التشّكيك؛ ولكن خطاب التشكيك يأتي ضمن سياق عام ضمن عملية فرض خيار التسوية المذل، هناك نخبة سياسيّة اعتمدت الحل السياسي الناعم، ويقوم وجودها على تقديم خدمات أمنية للاحتلال، وكجزء مكمل لخدماتها الأمنية يتم وصف المقاومة بالعبثيّة أو التشّكيك في جدواها، ضمن حرب نفسية تمارسها لمحاربة ليس فقط الفعل المقاوم وإنما أيضا فكرته وإمكانيته.

-بعد العثور على جثث المستوطنين الثلاثة، أثيرت في الأذهان مسألة الحرفية في عملية الخطف داخل الضفة الغربية، تاريخ خطف الإسرائيليين في الضفة كان مكلّلاً بعدم النجاح، لدينا على سبيل المثال: عملية خطف شارون ادري وناخشون فاكسمان وشاهر سيماني ووآريه أنتكال و نسيم تولدانو والون كرفاني في التسعينات وآفي سسبورتس وايلان سعدون قبل ذلك في نهاية الثمانينات؟

فيما يتعلّق بالحرفيّة فإنّ مجرّد التعامل مع ثلاثة مخطوفين يتطلب حدّاً أدنى من الحرفيّة، وقد تكون العملية فرديّة والحرفيّة ذاتيّة فيها بمعنى طبيعة الأفراد وخبرتهم الذاتية، نحن نعلم أنّ العمل الثوري تراكميّ؛ أي أنّ كل عمل يستفيد مما سبقه من تجارب ومن نجاحات وإخفاقات، وعلينا أن ننتبه لوضع الضفة الغربية الذي بات وضعيا أمنيا معقداً، تحكمه شبكة مركبّة، يتداخل فيها دور السلطة والاحتلال بالإضافة لحالة الاسترخاء الشعبي، حيث الحسّ الأمنيّ في مستواه الأدنى عند الناس؛ فيمكنك ملاحظة انتشار التصوير وسهولة الإفصاح عن الذات على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا غالباً ما يكون مفيداً للعدو.

-هل يدخل ضمن ذلك ما عُرف بحملات السخرية من الناطق باسم الجيش افيخاي أدرعي؟ صحيح أن التواصل معه يأخذ طابع السخرية والتقليل من شأنه؛ لكن علينا أن ننتبه للحاجز النفسي الذي يُكسّر خلال عمليّة التواصل هذه.

-لنتحدث عن هبة شعفاط، ما لذي حدث بالضّبط لم تشهد القدس ومحيطها حالة مشابهة حتى في انتفاضة الأقصى؟ لا يمكن فصل هبة شعفاط عن عمليّة خطف الجنود الثلاثة؛ فهي رفعت معنويات الناس. لم تتوقف المواجهات في القدس يوماً واحداً منذ سنوات (العيسوية، شعفاط، سلوان، البلدة القديمة، ساحات المسجد الأقصى، الطور،..الخ) تعيش حالة اشتباك يوميّ ولكنه غير مكثّف.

الذي جرى في المواجهات الأخيرة هو تكثيفها مكانيا في منطقة شعفاط، تحوّلت شعفاط لبؤرة جذب للمناطق التي حولها، ومن هنا جاء عنف المواجهة وحدتها. كانت المواجهة فرصة لتصفية حساب تراكم مع المستَعمِر، خذ مثلاً: الهجوم على القطار، هذا الجسم الغريب الذي زُرع وسط السكان بهدف شبك المستوطنات مع المركز، أو شارع 22 الذي يحاصر شعفاط ويمنعها من التمدد في البناء، أو زراعة شارع استيطاني سريع في وسط حي سكانيّ كما حدث مع بيت حنينا المحاذية لشعفاط، حين تشاهد تكسير لاشارات المرور عليك أن تعلم أن هذه الإشارة أيضاً كانت أحد وسائل الاستعمار الصهيوني في اضطهاد الناس وقهرهم.

فعلى مفترق "التلة الفرنسية" كانت الإشارة تفتح ضوءها الأخضر لدقائق عديدة أمام القادمين من المستوطنات باتجاه "تل ابيب" وأقل من دقيقة للطريق الذي يأتي منه الفلسطينيون، إن حالة الغضب جاءت لتراكم لكل هذا وغيره من السياسات التي تضيّق على المقدسيين. وجاءت حادثة خطف وحرق الشهيد محمد أبو خضير لتشعل النار في كل هذا الهشيم، وعلينا أن لا نغفل دور التعبئة المستمرة من مناشير وكتابة شعارات وغيره، وتحول الاشتباك مع المستعمرِ الى ثقافة وطريقة حياة لمجموعات شبابية.

-انطقلت بعض الدعوات التي ترفع مطالب محدّدة لانهاء الهبة رغبة في استثمار سياسي للحدث، وتحقيق بعض الانجازات، ما رأيكم بذلك؟ لم تكن المواجهة والاشتباك مرتبطة بمطالب سياسية، وإنما كانت عفوية، في حالة المسار المطلبي، عادة ما يكون الشرط الأول للمستعمِر هو وقف الاشتباك، وعادة ما يجري الانقلاب على مطالبها وعلى هبة الناس، من يضمن خلاف ذلك؟! كما أنّ أيّ أفق سياسيّ مطالبيّ هو مشروط بمصالحة ما مع المستعمِر. في المسار المطلبيّ: السؤال الأول هو من سيمثّل النّاس في تحقيق مطالبهم؟ من هذا السؤال تُفرز باقي الإشكاليات. الوصول إلى مرحلة لتقديم مطالب جاّدة يحتاج لقدرة على الأرض وقدرة على الفعل وتهديد الخصم لكي تجبر الطرف الآخر على الخضوع لمطالبك، لا أحد يتكرم بالالتزام إن كان بإمكانه التنصل.

-ولكن المنطق الذي يحكم النَفَس المطالبي؛ يراعي قدرة الناس على التحمل كون الهبات دائما قصيرة النفس ويجب استغلالها بأسرع مايمكن ألا توافقون؟

المطلوب تحويل حالة الاشتباك لحالة يومية بوتيرة منخفضة ومستمرة حتى لايتم ارهاق النّاس، ليس بالضرورة أن ندفع بذلك لتصعيد المواجهة، إنما الفكرة هنا في الاستمرار وبوتيرة منخفضة، لدينا مهمة ترميم خراب العشرين سنة الفائتة، وإعادة تسييس للمجتمع بشكل جذري، هذا هو معيار نجاح الهبة. حالة الاشتباك تخلق الشرط الأولي بأنها توسع المنخرطين والمشاركين في الاشتباك، وهنا علينا أن نتحدث عن مطالب لنا منا نحن وليس من المستعمِر، المطلب الأساسي هو توسيع المشاركة وتجذيرها لتكون بنية تحتية لأي حركة تصوغ المطلبيات السياسية مستقبلاً.

-لقد بدا الحراك بالداخل وكأن الشارع يسبق الحركة الوطنية التقليدية، وأقصد بذلك الأحزاب المعتادة في العمل السياسي؟

في داخل المجتمع طاقة لا يمكن للأحزاب تأطيرها، إنها تفيض عنها وليس منها، لقد بدا مؤخراً أنّ الفعل السياسيّ في الداخل مهمته هو تشذيب الطاقة السياسية لدى الناس، وليس أخذها لمداها، صحيح أنها بمرحلة من المراحل خلقت وعياً وطنياً؛ ولكنّ السؤال أين ذهبت في هذا الوعي؟ وماذا حقّقت من خلقه؟ تمثيل الناس أمام المؤسسة الاستعمارية(الكنيست،البلديات) حيث يُستهلك الكثير من الطاقة في النزاعات الحزبية، انظر لحجم المشاكل والإنقسامات التي يفرزها هذا الأمر، لقد تحوّلت الوسيلة لأرض يجري الصراع حولها، إن كان الفعل الذي في الشارع يتجاوز الفعل الحزبي هذا يعني أنّ الحزبي وصل لطريق مسدود ولم يعد قادرا على استيعاب الطاقات فضلا عن قيادتها .مثال ذلك الحركة الإسلامية، لقد كانت خارج التغطية، كان مخطط برافر وحاليا الهبة الجماهيرية وهم مشغولون بقضية مرسي.

-هذا الحدث يجعلنا نفكّر بفكرة "الطريق المسدود"، فكلّ فترة يجري اعادة انتاج هذه العبارة لقد وصلنا إلى طريق مسدود، هل ما حدث هو طريق مغاير، يشتق أفقه من ذاته وليس مما يُمنح من خارجه؟

خطاب الطريق المسدود مرهون بمقدماته، الطريق مسدود ليس لأنه أُغلق، هو مسدود لأنه منذ بدايته مسدود وله تاريخ صلاحية محدد. اختيارك لطريق مسدود يعني أنك ستصل لآخره بدون أفق بكل بساطة. السؤال الآن بعد معرفة أنّ الطريق مسدود ما هو العمل؟ عادة ما يتم استخدام خطاب الطريق المسدود لتبرير تسوية قادمة ومزيد من التنازل والتصالح مع العدو.

-ولكن البعض يقولون أنّ كل الأشكال وصلت إلى الطريق المسدود بما فيها الكفاح المسلح؟

الفعل العسكريّ لم يصل إلى طريق مسدود نهائياً، غزّة الوحيدة المخوّلة أن تقول بأن الطريق مسدود، ولكنها لم تقل ذلك، ليس فقط أنها لم تقله، بلقالت غيره، حيث أنها ما زالت قادرة على فتح آفاق جديدة للفعل والتأثير. الأمر كلّه مرتبط بإرادة فلسطين داخلنا نحن نريد تفصيل برنامج سياسي على حجم قدرتنا على دفع الثمن.

-كيف تفسرون حالة الخمود التي تشهدها الضفة؟ لقد تعودنا في مواجهات سابقة أن يكون الفعل المبادر في الشارع قادم من الضفة؟ هل هناك عمل ممنهج على تفريغ القدرات الانتفاضية عند الناس في الفترات التي خلت ونحن نشهد نتائجه اليوم؟ من سيئات الربيع العربيّ أنّه جعل تعريف الفعل السّياسيّ مرتبطاً بالحشد الباهر، ومن هنا نقول أن أي حدث في الضفة يجب أن يتوسع إلى الأرياف وليس بالضرورة أن يفكر بالابهار والحشد. فالأعمال الفريدة البسيطة المستمرة بوتيرة منخفضة، والمصحوبة بتعبئة وطنية تعمل على خلق وعي سياسي يخرج السياسة من غرقها في الرمزية والفلكلورية.

-مالذي يمكن رصده هذه المرّة في قدرات المقاومة وردة الفعل الصهيوني عليها هل من شيء مختلف عن الحرب السابقة؟

من المهم التذكير أن الفعل العسكري يعمل على البعد المعنويّ مهما كان حجمه ومهما كانت أدواته، ولا يهم هنا عدد القتلى بقدر أهمية هزّ الروح الأمنية والمعنوية للعدو. يتفاجأ العدو في كل مرّة بقدرة المقاومة، فالمقاومة قصفت الشريط السّاحلي من غزة وحتى حيفا، ووصلت العمق حتى القدس وديمونا، هنالك مناطق تقصف لأول مرة في تاريخ الكيان الإسرائيلي، ولا ننسى منطقة "غوش دان" التي تعتبر التكثيف السّكاني والأمني والاقتصادي والسّياسي لدولة الاحتلال، وهذا كلّه أصبح تحت مرمى صورايخ المقاومة. كما يمكننا الحديث عن كفاءة التوجيه، فلم تسجل حتى الآن أي حالة لسقوط صاروخ في منطقة عربية. وهناك أهداف نوعية للمقاومة مثل: مطار بن غوريون (اللد سابقا) والقاعدة العسكرية بلمخيم.

-كيف تقييمون أداء القبة الحديدية؟ القبة الحديدية فشلت كمنظومة، فالهدف منها هو أن تصل حالة الردع واللاجدوى عند المقاومة، أي تُحيل فكرة اطلاق الصاروخ لفكرة عدمية لا جدوى منها، ولكن الذي حدث هو العكس، فلكي تتخطى القبة الحديدية ومجساتها، يصبح عليك أن تغرقها بمزيد من الصواريخ والقذائف لتربكها. عمليات القصف التي يمارسها الاحتلال هي عمليات قصف "بدائية" من زمن الحرب العالمية الأولى، ولا تُعبر عن منظومة عسكرية مقتدرة على مستوى التخطيط وتحليل المعركة والفن العملياتي العسكري، لقد أصبح الجيش الصهيوني والمجتمع الصهيوني أسرى للقبة الحديدية.

-لكن غزة بالنهاية لا يمكنها أن تكون أفقاً للمواجهة بحكم طبيعتها الساحلية؟

لا توجد جغرافيا مع أو ضدّ، هناك جغرافيا بتحديات، وهذه التحديات عليها أن تتحوّل لشرط موضوعيّ لصناعة المقاومة، صحيح أن غزة منطقة ساحلية بدون جبال ولا وديان ولكنّ تربتها الرملية، أتاحت سهولة حفر الأنفاق. وكذلك قربها من البحر وسيناء ساعدها على الاتصال بخطّ تهريب السّلاح، كما أنّ كثافة البيوت في غزة حولتها إلى غابة من الاسمنت وبالتالي مكانا ممتازا للمارسة حرب العصابات المدينية والحرب الهجينة. المسألة هي ليست في المكان بل في شكل علاقة الناس بالمكان، وإعادة تخليّقه كمكان مقاوم، بالاشتغال على مواد المحيط يمكننا تحويل أي معيقات لشروط موضوعية لانتاج الفعل. وبذلك يمكننا القول في حالة غزّة أنّ الجيولوجيا والجغرافيا هزمت الطوبوغرافيا.

-يبدو أنه مع خطاب أوسلو ترسخ استخدام كلمة مستوطن للإشارة للمقيمين على أراضي ال67، وكأنّ إقامتهم غير شرعية فيما المستوطن الذي في تل ابيب إقامته شرعية، كما برزت صفة ا"لمتطرف" و"اليميني" التي تحاول وصف نوا واحد من الصهاينة وكأن هناك صهاينة غير متطرفين، كيف ترون هذه التسميات؟ كلّهم مستوطنون في تل أبيب أم في يتسهار، وحصر إطلاق مسمى "مستوطن" على الصّهاينة في الضفة، آلية لتحويل الصّهاينة، في فلسطين المحتلة عام 1948 والجولان المحتل عام 1967إلى سكان أصليين. وصف المستوطنين بالمتطرفين، آلية لصبغ صفة الإعتدال والطبيعية على عموم الصهاينة، من خلال حصر التطرف والعنصرية الملازمة لكل استعمار استيطاني في فئه "شاذة" من هذا العموم. المستوطنون ليسوا فئة إجتماعية أو شريحة سكانيّة، وإنما جهاز عسكري أمني صهيوني، يقوم بدور أساسي في الاستعمار الصهيوني الاستيطاني، وهو العمل على تهجير الفلسطينين والسيطرة على الأرض ومحاربة الفلاحين أقرب الفلسطينيين الى الأرض. المستوطنون يعبرون عن روح المجتمع الصهيوني الاستيطاني الحقيقية، ووجودهم أساسي في خلق هويته الجَمعية، ونقد اليسار "الإسرائيلي " لتطرف المستوطنين يمنح الفرصة للمجتمع الصهيوني لحلّ إشكالياته وتناقضاته "الأخلاقية الداخلية" ما بين إدعاءات هذا المشروع وحقيقته التي لا يمكن إلّا أن يكونها: إحلالي تهجيري إبادي.