شبكة قدس الإخبارية

القطار في القدس: ليس مرفقاً عامّاً!

هنادي قواسمي

لا تقع مشاهد الدمار والحرق الذيْن حلاّ بمحطتي القطار الإسرائيلي الخفيف في قرية شعفاط شمالي القدس ضمن تصنيفات "الأعمال التخريبية للمرافق العامّة"، أو "فشات الخلق الصبيانية"، كما يدّعي بعض المغرمين بـ"التظاهر السّلمي". فأهالي القدس الذين خرجوا محتجين عقب استشهاد الطفل محمد حسين أبو خضير بعد خطفه وحرقه حيّاً على أيدي المستوطنين، واستهدفوا هاتين المحطتين يعرفون تحديد "أعدائهم" جيداً بدون الحاجة لفذلكة من أحد، وهم يُدرِكون تماماً أن القطار ليس سوى بنية تحتية أخرى للاحتلال لا تجوز أمامه تعابير من نوع "مرافق عامّة".

لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، فمع خروج أول قطار ليوم الأربعاء 2 تموز 2014 عند السّاعة الخامسة والنصف فجراً، بعد ساعة فقط من الإعلان عن اختطاف الطفل أبو خضير، وقف أهالي شعفاط الغاضبون أمام القاطرة معلنين بأجسادهم أن القطار لن يمرّ من قريتهم. منذ ذلك الحين ولما يقارب أسبوع كامل* شُلّتْ بأمر من أهالي شعفاط حركةُ القطار من محطته الأولى شمالاً في قلب مستوطنة "بسجات زئيف"، التي أقيمت أجزاء منها على أراضي شعفاط، حتى محطة "السّهل" آخر محطة في القرية. أدى ذلك إلى إيقاف الحركة في سبعة محطات للقطار وإلى تعطيل نقل عشرات آلاف المستوطنين، وقد قالت شركة "سيتي باس" المسؤولة عن تشغيل القطار أن الخسائر تقدر بعشرات ملايين الشواكل، إضافة إلى الضّرر الكامن في انخفاض المبيعات.

في المقابل، منعت قوات الاحتلال لعدة أيام مرور المستوطنين من مستوطنات شمالي القدس إلى مركزها وجنوبها عبر الشّارع الاستيطاني الجديد الذي افتتحه نتنياهو العام الماضي (شارع رقم 20)، والذي يسرق أراضي بيت حنينا المجاورة لشعفاط، وهو كذلك ليس من "المرافق العامة". يشترك القطار الخفيف وهذا الشّارع السّريع بأنهما ضمن خطّة إسرائيلية موسعة قدّمتها لجنة إسرائيلية خاصة في العام 1993، وتهدف إلى "تطوير نظام المواصلات في القدس ووصل أجزائها ببعضها، بما يليق بالعاصمة وحجم سكانها المتزايد"، على حدّ تعبيرهم. بعد توقف القطار عن المرور في شعفاط، تشوّشت أهداف هذه الخطّة، وكان بإمكان أهالي القدس التلذذ لعدة صباحات بمنظر الطوابير الطّويلة لسيارات المستوطنين الذين لم يبق أمامهم سوى خيار شارع واحد فقط للمرور به خارج مستوطناتهم.

_D8A2936

ويطرح السؤال هنا: هل تكسير محطة القطار، وحرق آلات التّذاكر وأعمدة الإعلانات وحرق حديد السّكة وقص أعمدة الكهرباء التابعة له، هل يعدّ كل ذلك "تخريباً فائضاً عن الحاجة"، أو كما عبر البعض عنه "تدمير لمرفق إسرائيلي ولكنه يخدم المقدسيين أنفسهم"؟ قبل الرجوع إلى تاريخ القطار والسّياق الذي أنشىء فيه، يمكن معرفة الإجابة سريعاً من فرح الناس الصادق وفخرهم بهذا التدمير. تسمع أثناء التواجد بالقرب من بيت الشهيد تعليقات مثل :"لا نريد قطاركم"، "أحسن اشي عملوه الشباب انهم كسروا محطات القطار"، كما لا يمكننا إغفال الهتاف الذي خرج من بعض الشبان بعد شروع بلدية الاحتلال بتنظيف آثار الدمار صباح الاثنين، إذ قالوا: "من شعفاط طلع القرار، من هون ما في قطار".

خلفية عن القطار

بينما يدّعي الاحتلال أن القطار مشروعٌ مدنيٌّ يهدف إلى خدمة جمهور المسافرين بدون أي تفرقة، وإلى تخفيف أزمات السّير والتلوّث في المدينة، فإن الفلسطينيون يدركون جيداً أن لا مدني بحت في دولة الاحتلال، وأن مشروع حداثي متطور كهذا هو مشروع سياسي استيطاني بالأساس، وبالتالي فهو بكل تأكيد ليس يخدمهم. يُساهِمُ القطار في عمليات فرض الطابع اليهودي على المدينة وبالأخص في محيط البلدة القديمة، كما يعمل على فرض هيمنةٍ إسرائيلية كاملةٍ عليها، رابطاً الكتل الاستيطانية في شمال القدس بمركزها في خطّه الحالي، ومن المقرر أن يربطها بالمستوطنات الجنوبيّة بعد استكمال خطّه الثاني الذي سينتهي بالقرب من مستشفى هداسا عين كارم. وقد قال ارئيل شارون في العام 2005، بأنه يؤمن أن القطار الخفيف في القدس يجب أن يُبنى، وأنه يجب على "إسرائيل" أن تقوم ببناء وتوسيع أي شيء يمكنه – كما القطار – المساهمة في الحفاظ على القدس كعاصمة أبدية وموّحدة للشعب اليهودي.

_D8A2949

ووفقاً لللجنة الوطنية لمقاطعة "إسرائيل" وسحب الاستثمارات منها BDS، فإن بناء القطار يشكل انتهاكاً للقانون الدوليّ، كونه يُغيّر معالم المدينة المحتلة، ويُقام على أراضٍ يعرفها المجتمع الدوليّ بأنها محتلة – أراضي الـ67. وبناء على ذلك، فقد نشطت حملات دولية عدة لمقاضاة ومقاطعة شركتين فرنسيتين هما "فيولا" و"ألستوم" لهما حصص في شركة "سيتي باس" المشغلة للقطار. عدا عن مشاركتها في مشروع القطار الخفيف فإن شركة "فيولا" تشغل على أراضٍ فلسطينية مكباً لنفايات المستوطنات في غور الأردن، وتُشغل عدد من خطوط الحافلات من مستوطنات الضفة الغربية. ونتيجة لحملات دولية متعددة لفضحها خسرت شركة "فيولا" الفرنسية عقوداً كثيرة تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات نتيجة احجام العديد من الجهات عن توقيع عقود معها. وقد خسرت شركة "ألستوم" بسبب مشاركتها في بناء قطار القدس، عقداً سعودياً لبناء قطار يربط مكة بالمدينة.

لطالما حفل التاريخ الطويل للاستعمار في العالم بمقولات مثل: "لقد جلب المستعمرون الحضارة للبلد المستعمَرَة وطوروا بناها التحتية"، وهو قول يغفل عن حقيقة أن هذه البنى التحتية أنشأت في الأساس لخدمة القوى الاستعمارية وتعزيز نفوذها وسيطرتها، ففي إفريقيا مثلاً وُظّفت لصالح نهب المواد الخامّ ونقلها إلى أوروبا. أهالي شعفاط الذين صبّوا غضبهم على القطار ومرافقه، يدركون ذلك حتى وإن لم يطلعوا على تجارب التاريخ هذه، فالأمر لا يخطِؤه الوعي الوطنيّ: القطار يمرّ فوق أراضيهم، يصادر أجزاءً منها، أثّر على شارعهم الرئيس وضيّق السير فيه، ويستغل حيزهم الضيق لتعزيز الاستيطان والتهويد، فبالتأكيد ليس "مرفقاً عاماً" يحافظ عليه.

*رجع القطار للمرور من قلب شعفاط محملاً بالمستوطنين بشكل رسمي يوم الأحد 13 تموز.

*الصور بعدسة: مصطفى الخاروف.