إنهم يضربون الأبواب. يريدوننا أن ننهض. أنا متعب. أطرافي تؤلمني. لا أستطيع تحريك قدميّ. أشعر بالدوار اذا حرّكت رأسي ولو قليلاً. إنهم يصرخون. هم دائماً يصرخون. إذا لم ننهض سنعاقب. سيجرونني إلى العزل الإنفرادي ويرمونني هناك يوماً أو يومين، حتى أفقد التمييز بين الليل والنهار. قد يضربونني، كما ضربوا رفيقي أمس ... لكنني لا أستطيع النهوض حتى لو أردت.
كم أذكر الآن المرة الأولى ... لم أكن أعرف شيئاً. بالكاد كنت أفهم ما يحصل. كنت في الصف السادس يومها، وكنت خارجاً من المدرسة. أعادونا باكراً ذلك اليوم لأن المواجهات كانت أشد من الأيام السابقة. كان هناك أناس يركضون في الشارع ويصرخون، وكان الشبان كانوا قد دفعوا حاويات القمامة إلى منتصف الشارع وشكلوا منها متراساً. بعضهم كان ملثماً، وكانوا يرمون الحجارة على جولات. ثلاثة يتقدمون ويرمون الحجارة بأقوى ما يمكن لأذرعتهم أن ترمي، فيفرغون ما بحوزتهم ويعودون إلى الوراء، فيتقدم ثلاثة غيرهم. بعض النسوة في الخلف كنّ يملأن دلاء البلاستيك والصفيح بالحجارة، فيركضن إلى حيث الشباب ويلقين الحجارة عند أقدامهم.
هناك رأيت رغد ! كانت تقف عند بوابة مدرسة البنات وقد تقوس ظهرها بحمل حقيبتها المدرسية، ومريولها الأزرق متسخ بالغبار. كانت تحدق إلى حيث النساء. وفجأة انطلقت تركض كالسهم. كانت قد رأت أمها بين النساء اللواتي يجمعن الحجارة، فركضت باتجاهها.
في تلك اللحظة بالضبط ترك الشباب المتراس دفعة واحدة وبدأوا يركضون إلى الشارع الذي خلف المدرسة، ليختفوا بين الأزقة ... حدقت إلى المتراس المرتفع من خلف الشبان الين يركضون باتجاهي، ورأيت أذناباً بيضاء ترسمها عشرات قنابل الغاز التي تصعد كالصقور في السماء، وتنزل كالمطر وراء المتراس، فارتفعت غيمة بيضاء كثيفة غطت كل شيء. شعرت بعينيّ تحترقان بفعل الغاز، واحترقت حنجرتي أيضاً، ولم أعد قادراً على التنفس. شعرت بالغثيان، وبدأ رأسي يدور، تماماً مثل الدوار الي أشعر به الآن. ومن خلف غيم الغاز رأيت أحذية الجنود تهدم المتراس، ورأيتهم يركضون ويصرخون كالمجانين. ثم نظرت إلى الجهة المقابلة، إلى حيث مدرسة البنات. كانت رغد قد سقطت على الأرض في منتصف ركضها، وكانت تسعل بفعل الغاز، وتصرخ أن حنجرتها تحترق هي أيضاً.
نهضت، وبدأت أركض باتجاهها لأساعدها على النهوض. كانت خطاي ثقيلة، ولم أكن أعرف مدى سرعتي. تماماً مثل فقداني لحسي بالحركة الآن. كان الغاز يملأ رئتيّ ولم أعد أرى جيداً، لكنني وضعت نصب عينيّ رغد. كنت أنظر إليها هي فقط، إلى وجهها المحمرّ بالبكاء. إلى مريولها الأزرق المتسخ بالغبار. إلى حقيبتها المدرسية تعلق من كتفيها وتجذبها إلى الأرض ... كان وجهها يعطيني القوة لكي استمر بالركض. رددت اسمها في رأسي بينما تعالت دقات قلبي في كل ناحية من جسمي على إيقاع ركضي : رغد .. رغد .. رغد ... ثم شعرت بشيء ثقيل ضربني على عنقي ممسكاً بي وأوقفني.
حركت رأسي لأنظر خلفي، فشعرت بالدنيا تدور من حولي، وبغثيان مجنون اجتاح أمعائي. فتحت عينيّ، فرأيت وجه الجندي يصرخ، لكنني لم أفهم ما يقول. صرخ أعلى، ولكنني بدأت أفقد السمع بشكل متسارع ... وجه الجندي يبتعد، يتلاشى ... صوته يخفت ... رغد ! أحنيت رأسي، وفقدت الوعي.
في مكتب الضابط أجلسوني على كرسي حديد منخفض، وقطعوا رباط البلاستيك عن يديّ. تحسستهما وشعرت أنهما عادتا إلي بعد فقدهما.
- من كان يرمي الحجارة معك ؟! " صاح الضابط. - أنا لم أرم حجارة. كنت عائداً من المدرسة ..." - إذن لماذا هربت ؟! " - أنا لم أهرب ! كنت أريد أن أساعد ... " توقفت. لا أعرف لماذا شعرت أن اسم رغد كان أقدس من أن ألفظه لأدافع عن نفسي أمام الضابط. - كنت تريد أن تساعد في جلب الحجارة ! تعترف إذن ! " - أنا لم أرمي الحجارة! قلت لك أنني كنت خارجاً من المدرسة ! " - أنت مشاغب صغير ! أبوك لم يعرف كيف يربيك! " وفتح دفتاً كبيراً على مكتبه، وبدأ يكتب وهو يقول : - نحن سنعرف كيف نربيك " وأومأ برأسه دون أن يرفع نظره عن الدفتر، فأمسك الجنود بذراعيّ وأخذوني.
بعد يومين أدخلوني قاعة كبيرة. كان هناك أناس كثيرون لا أعرفهم، وكان هناك أبي، يجلس في الجهة المقابلة.
عندما رآني قفز من كرسيه وبدأ يصرخ : "يابا ! شد حالك يا يابا ! احنا راح نطلعك من هان يا حبيبي ! " ... أردت أن أتماسك وألّا أبكي. لكن صوت أبي انكسر هو بالبكاء حين صاح : "تخافش يا حبيبي! انت زلمة ! "
لم أستطع السيطرة على صرخة عاصفة خرجت رغماً عني : "يابا !"
اندفع أبي من فوق الجاجز الخشبي الذي فصله عن وسط القاعة وركض نحوي. فقفزت فوق الحاجز أمامي ورميت نفسي بين ذراعيه ... عانقته وكأنني لم أره من سنوات. كنت خائفاً من أن أتركه. كنت خائفاً من مشاعري التي خرجت رغماً عني دفعة واحدة. لم أعد أكترث ما يفكره القاضي، ولا الجنود. كنت أريد أن أبقى مع أبي. أن أعود إلى البيت ...
أيادي الجنود تسحبني بقوة إلى الخلف. بدأت أعتاد عليها ... أبي يتماسك، كما يفعل الرجال، ويعود إلى مقعده بصمت. يجلس، ويمسح دمعة عن خده، ثم يعطيني ابتسامة لم أعرف من أين أخرجها، وشفتاه تتمتمان لي "شد حالك ! "
لم أستمع إلى شيء مما قالوه طوال الجلسة. كنت أنظر فقط إلى أبي. في نهاية الجلسة صاح القاضي العسكري : "بناء على ملف سري، حكم إداري بستة أشهر". كنت في السادس الابتدائي ولم أكن أعرف ماذا تعني ستة أشهر. بالنسبة لي كانت العطلة الصيفية أطول من كل السنة المدرسية مجتمعة. شعرت أنني سأقضي حياتي كلها في السجن، فانهرت بالبكاء. لكن في اللحظة التالية فكرت برغد ... لمعت عيناها أمامي، وابتسامتها الصغيرة التي لا تتغير. فضربت الأرض بقدمي! ونهضت. نظرت إلى القاضي مباشرة وكان يهم بالخروج، فناديته:
إنهم يضربون الأبواب. يريدوننا أن ننهض. أنا متعب. أطرافي تؤلمني. لا أستطيع تحريك قدميّ. أشعر بالدوار اذا حرّكت رأسي ولو قليلاً. إنهم يصرخون. هم دائماً يصرخون. إذا لم ننهض سنعاقب. سيجرونني إلى العزل الإنفرادي ويرمونني هناك يوماً أو يومين، حتى أفقد التمييز بين الليل والنهار. قد يضربونني، كما ضربوا رفيقي أمس ... لكنني لا أستطيع النهوض حتى لو أردت.
كم أذكر الآن المرة الأولى ... لم أكن أعرف شيئاً. بالكاد كنت أفهم ما يحصل. كنت في الصف السادس يومها، وكنت خارجاً من المدرسة. أعادونا باكراً ذلك اليوم لأن المواجهات كانت أشد من الأيام السابقة. كان هناك أناس يركضون في الشارع ويصرخون، وكان الشبان كانوا قد دفعوا حاويات القمامة إلى منتصف الشارع وشكلوا منها متراساً. بعضهم كان ملثماً، وكانوا يرمون الحجارة على جولات. ثلاثة يتقدمون ويرمون الحجارة بأقوى ما يمكن لأذرعتهم أن ترمي، فيفرغون ما بحوزتهم ويعودون إلى الوراء، فيتقدم ثلاثة غيرهم. بعض النسوة في الخلف كنّ يملأن دلاء البلاستيك والصفيح بالحجارة، فيركضن إلى حيث الشباب ويلقين الحجارة عند أقدامهم. هناك رأيت رغد ! كانت تقف عند بوابة مدرسة البنات وقد تقوس ظهرها بحمل حقيبتها المدرسية، ومريولها الأزرق متسخ بالغبار. كانت تحدق إلى حيث النساء. وفجأة انطلقت تركض كالسهم. كانت قد رأت أمها بين النساء اللواتي يجمعن الحجارة، فركضت باتجاهها.
في تلك اللحظة بالضبط ترك الشباب المتراس دفعة واحدة وبدأوا يركضون إلى الشارع الذي خلف المدرسة، ليختفوا بين الأزقة ... حدقت إلى المتراس المرتفع من خلف فالشبان الين يركضون باتجاهي، ورأيت أذناباً بيضاء ترسمها عشرات قنابل الغاز التي تصعد كالصقور في السماء، وتنزل كالمطر وراء المتراس، فارتفعت غيمة بيضاء كثيفة غطت كل شيء. شعرت بعينيّ تحترقان بفعل الغاز، واحترقت حنجرتي أيضاً، ولم أعد قادراً على التنفس. شعرت بالغثيان، وبدأ رأسي يدور، تماماً مثل الدوار الي أشعر به الآن ... ومن خلف غيم الغاز رأيت أحذية الجنود تهدم المتراس، ورأيتهم يركضون ويصرخون كالمجانين. ثم نظرت إلى الجهة المقابلة، إلى حيث مدرسة البنات. كانت رغد قد سقطت على الأرض في منتصف ركضها، وكانت تعسل بفعل الغاز، وتصرخ أن حنجرتها تحترق هي أيضاً ... نهضت، وبدأت أركض باتجاهها لأساعدها على النهوض. كانت خطاي ثقيلة، ولم أكن أعرف مدى سرعتي. تماماً مثل فقداني لحسي بالحركة الآن، هنا. كان الغاز يملأ رئتيّ ولم أعد أرى جيداً، لكنني وضعت نصب عينيّ رغد. كنت أنظر إليها هي فقط، إلى وجهها المحمر بالبكاء. إلى مريولها الأزرق المتسخ بالغبار. إلى حقيبتها المدرسية تعلق من كتفيها وتجذبها إلى الأرض ... كان وجهها يعطيني القوة لكي استمر بالركض. رددت اسمها في رأسي بينما تعالت دقات قلبي في كل ناحية من جسمي على إيقاع ركضي : رغد .. رغد .. رغد ... ثم شعرت بشيء ثقيل ضربني على عنقي ممسكاً بي وأوقفني.
حركت رأسي لأنظر خلفي، فشعرت بالدنيا تدور من حولي، وبغثيان مجنون اجتاح أمعائي، كما أشعر به الآن عندما أحرك رأسي. فتحت عينيّ، فرأيت وجه الجندي يصرخ، لكنني لم أفهم ما يقول. صرخ أعلى، ولكنني بدأت أفقد السمع بشكل متسارع ... وجه الجندي يبتعد، يتلاشى ... صوته يخفت ... رغد ! أحنيت رأسي، وفقدت الوعي.
في مكتب الضابط أجلسوني على كرسي حديد منخفض، قطعوا رباط البلاستيك عن يديّ. تحسستهما وشعرت أنهما عادتا إلي بعد فقدتهما. - من كان يرمي الحجارة معك ؟! " صاح الضابط. - أنا لم أرم حجارة. كنت عائداً من المدرسة ..." - إذن لماذا هربت ؟! " - أنا لم أهرب ! كنت أريد أن أساعد ... " توقفت. لا أعرف لماذا شعرت أن اسم رغد كان أقدس من أن ألفظه لأدافع عن نفسي أمام الضابط. - كنت تريد أن تساعد في جلب الحجارة ! تعترف إذن ! " - أنا لم أرمي الحجارة! قلت لك أنني كنت خارجاً من المدرسة ! " - أنت مشاغب صغير ! أبوك لم يعرف كيف يربيك! " وفتح دفتاً كبيراً على مكتبه، وبدأ يكتب وهو يقول : - نحن سنعرف كيف نربيك " وأومأ برأسه دون أن يرفع نظره عن الدفتر، فأمسك الجنود بذراعي وأخذوني.
بعد يومين أدخلوني قاعة كبيرة. كان هناك أناس كثيرون لا أعرفهم، وكان هناك أبي، يجلس في الجهة المقابلة. عندما رآني قفز من كرسيه وبدأ يصرخ : "يابا ! شد حالك يا يابا ! احنا راح نطلعك من هان يا حبيبي ! " ... أردت أن أتماسك وألّا أبكي. لكن صوت أبي انكسر بالبكاء حين صاح : "تخافش يا حبيبي! انت زلمة ! "
لم أستطع السيطرة على صرخة عاصفة خرجت رغماً عني : "يابا !"
اندفع أبي من فوق الجاجز الخشبي الذي فصله عن وسط القاعة وركض نحوي. فقفزت فوق الحاجز أمامي ورميت نفسي بين ذراعيه ... عانقته وكأنني لم أره من سنوات. كنت خائفاً من أن أتركه. كنت خائفاً من مشاعري التي خرجت رغماً عني دفعة واحدة. لم أعد أكترث ما يفكره القاضي، ولا الجنود. كنت أريد أن أبقى مع أبي. أن أعود إلى البيت ...
أيادي الجنود تسحبني بقوة إلى الخلف. بدأت أعتاد عليها ... أبي يتماسك، كما يفعل الرجال، ويعود إلى مقعده بصمت. يجلس، ويمسح دمعة عن خده، ثميعطيني ابتسامة لم أعرف من أين أخرجها، وشفتاه تتمتمان لي "شد حالك ! "
لم أستمع إلى شيء مما قالوه طوال الجلسة. كنت أنظر فقط إلى أبي. في نهاية الجلسة صاح القاضي العسكري : "بناء على ملف سري، حكم إداري بستة أشهر". كنت في السادس الابتدائي ولم أكن أعرف ماذا تعني ستة أشهر. بالنسبة لي كانت العطلة الصيفية أطول من كل السنة المدرسية مجتمعة. شعرت أنني سأقضي حياتي كلها في السجن، فانهرت بالبكاء. لكن في اللحظة التالية فكرت برغد ... لمعت عيناها أمامي، وابتسامتها الصغيرة التي لا تتغير. فضربت الأرض بقدمي! ونهضت. نظرت إلى القاضي مباشرة وكان يهم بالخروج، فناديته:
كابتن ! " فسكت كل من في القاعة ونظروا إليَ. التف القاضي العسكري ببطئ، ومن تحت حاجبين مقطبين نظر باتجاهي، فقلت بأعلى صوتي :
- "أنت اليوم تضع في السجن ولداً، ولكن سترى الرجل الذي سيخرج !
وظل الصمت مخيماً على القاعة ...
إنهم يضربون الأبواب. يصرخون. اقتربوا كثيراً. يريدوننا أن ننهض، كأنهم لا يعرفون أننا لا نستطيع التكلم حتى. هذا يومي العشرين دون أكل أو شرب. إنهم يخافون من جوعي. كل يوم يمر دون أن آكل أو أن أموت يزدادون شراسة وقسوة. يريدون أن يخيفونني، لكنهم لا يعرفون، أنني أعرف، أنهم عندما يزدادون شراسة فهذا يعني أنهم أقرب إلى الانكسار مني ...
إنهم يشتمون. " كلاب ! قوم انت واياه ! "
كلاب ... هكذا كان يصرخ الجندي الصغير يومها. لم أكن أعرف عندما سمعته أنها ستكون مرتي الثانية. كانوا قد جاءوا لمصادرة أرض الحاج أبو أحمد. أبو أحمد كان صديق جدي، وكانا أيام العونة يفلاحان أرضيهما معاً، ويتقاسمان خيرها بالنصف، بين العائلتين. أنا عملت كثيراً في تلك الأرض، حتى بعد أن توفي جدي، لأساعد أبا أحمد وأبنائه.
كنت يومها عائداً من العمل في أم الشرايط. كان ذلك الحي في عز صعوده العمراني، وكانت هناك ورش بناء كثيرة، وفرص عمل جيدة، لوقت ما. كانت الانتفاضة انتهت، والمفاوضات عادت إلى مجراها، والكل يتحدث عن السلام. فعاد الكثير من الباشوات ليبنوا ويستثمروا. بالنسبة لأناس مثلي، كان ذلك يعني أننا لن نضطر للبحث عن تصريح للعمل في الداخل. لكن، لوقت ما.
نزلت من السيارة العمومية عند مدخل القرية. كانت رغد قد اتصلت بي وقالت إن الجيش في القرية، وأن الجميع عند أبي أحمد، لكن لم أفهم جيداً ما يحصل. نزلت من السيارة وشكرت السائق، وبدأت أمشي بسرعة إلى أرض أبي أحمد. وفجأة، رأيت محمود، ابن أبي أحمد الأصغر، يركض نحوي ويناديني.
- أين كنت يا رجل ! تعال بسرعة ! الجيش جاء ليصادر أرضنا ! - منذ متى هم هنا ؟ - من الصباح. جاءوا وبدأوا بنصب الأسلاك الشائكة، ولولا أن أبي رآهم ن شرفة الدار ونبه الجميع لما تمكن أهل القرية من التجمع وإيقافهم ! - إذن الناس كلهم هناك؟ - نعم، ورغد أيضاً. تحاول أن تتكلم معهم بالانكليزية لكنهم لا يريدون الاستماع إلى أحد. يقولون أنها منطقة عسكرية. أخرجنا كل أوراق ثبوتية الملكية لكن ... تعال أرجوك بسرعة ! أنت الوحيد الي يتحدث العبرية !
- حسناً، حسناً ... أنا قادم معك ...
عندما وصلت كان كل أهل القرية في الأرض. كانوا يهجمون علي بالتوصيات : "قل لهم أن هذه أرض فلاحة! قل لهم أنها لم تكن يوماً أرضاً عسكريةّ ! قل لهم أنها مصدر رزق ! قل لهم ... وفجأة رأيت رغد. مشت نحوي بسرعة تسألني :
- أين كنت ؟ - عدت لتوي من العمل ! - تعال بسرعة! على دورنا أصبحوا لا يفهمون الانكليزية ! - لا أعرف إن كانت المشكلة فعلاً في أنهم لا يفهمون ... - حاول معهم أرجوك ! - طيب سأحاول ...
وعندما وصلت إلى السياج الذي كانوا ينصبونه، كان العشرات جالسين أمام الجنود ليمنعوهم من إكمال العمل، وكان أبو أحمد واقفاً بين الجنود وبين الجالسين، يلوح بعصاه ويحاول الصراخ بصوته الذي كتمته الشيخوخة. أما الجنود فكانوا يركلون الناس بأرجلهم لإبعادهم ويشتمون ...
- كلاب ! قوم انت واياه ! "
وقفت للحظة أنظر إلى المشهد، وقد فهمت أنه فات الأوان للتفاهم معهم. كان الضابط يصرخ في وجه أبي أحمد، وكاد جبينيهما يتلامسان في لحظة تحدٍ أسطورية. بدأ شيء ما يغلي في أحشائي، وبدأ الدوار يصعد إلى رأسي، مثل دوار الزنزانة، ومثل دوار الغاز، حين رفع الضابط بندقيته وضرب رأس أبي أحمد بمؤخرتها. سقط أبو أحمد على الأرض، وتدحرج عقاله عن رأسه. رأيته ينهض ببطئ ويلتقط عقاله ليعيده على جبهته الدامية، ليقف من جديد، مرتجفاً بفعل الغضب والألم، ليواجه الضابط من جديد.
الدوار يزداد، دقات قلبي تعلو لتطغى على كل الأصوات. الغثيان يقوى ويتصاعد ... ثم شعرت بكف رغد يهبط على كتفي ويشد عليه ... فتلاشى الدوار، والغثيان، وكل شيء، وعدت أسمع وأرى كل شيء بصفاء عجيب. فضربت الأرض بقدماي، واندفعت كالعاصفة المجنونة نحو الضابط الذي نظر إليّ بذعر، كأنه يرى الموت. لوحت ذراعي بكل قوة ولكمته على فمه، فسقط كشجرة عجوز تحت فأس الحاطب، وكل ثقل عتاده يذبه إلى الأسفل، ثم بدأ يتلوى من الألم. وقفت فوق رأسه ونفسي يتسارع وهمست : "يدك القذرة أقطعها إن مددتها إلى أبي أحمد ثانية ! "
أيادي الجنود تهبط علي من كل صوب. أحذيتهم تركلني. بنادقهم تدق جمجمتي كما لو كانوا يريدون تحطيم صخرة. إنهم يجرونني كالخروف الذبيح. إنني أرى دمي يرسم خطاً ورائي وأنا أسحب. وهناك كانت رغد ... تنظر إليّ بفخر. منتصبة مكانها بين الراكضين في كل اتجاه. آخر ما رأيته كان الابتسامة الأزلية التي أهدتني إياها .... وغبت عن الوعي.
ستة شهور أخرى. هذه المرة مرت بسرعة. كنت في زنزانة واحدة معى أربعة شبان، كلهم لي في الجامعة. كانوا يمضون الوقت في القراءة، ويتبادلون ملخص ما قرأوا مرة في الأسبوع. لم أكن اعرف كيف لهم أن يلتهموا الكتب بهذه السرعة، حتى في يوم أحدهم قدم لي كتاباً وقال أنه علي أنا أن أشرح محتواه في المرة المقبلة. قرأته كيفما استطعت، وفي الجلسة الأسبوعية كانوا هم من يشرح لي ما قرأت. قلت لهم أنني أريد تكرار التجربة. أن أنضم لهم. فأعطوني كتاباً أكبر وأسمك. قرأت في تلك الأشهر الستة أكثر مما قرأته طوال حياتي. لكن بعد الأشهر الثلاثة الأولى بدأت أحنّ لأهلي. لأبي، لأمي، للقرية، لرغد ... لم أعرف ماذا حل بأبي أحمد وبأرضه لأنهم منعوا عني الزيارة، لكن كنت أعرف جيداً أن الأرض ةصودرت. دائماً ينتهي الأمر هكذا. في اليوم الأخير حزمت أشيائي القليلة ووقفت في باب الزنزانة. عانقت رفاق زنزانتي واحداً واحداً، وقلت لهم أننا سنلتقي في الخارج. "الله معك يا كبير ! هتف أحدهم وأنا أغادر الزنزانة. لوحت لهم بيدي وأدرت ظهري. قلبي يدق، ككل مرة. هذه المرة ليس هناك ذعر. سأرى أبي بعد قليل ! هل يا ترى أتت رغد معهم أيضاً؟ كلا ! إنها تنتظرني في القرية لتزغرد مع أمي عند نزولي من السيارة ! أبو أحمد سيكون موجوداً بلا شك، ومحمود صديقي أيضاً ...
إنهم لا يقودونني إلى الخارج. هذا مكتب الضابط ! أنا لا أفهم ما يحصل ... أقف أمام الضابط وأصابعي تتعرق حول ممسك الحقيبة التي تعلق من كتفي. لا أعرف ماذا علي أن أشعر. الضابط لا يرفع بصره عن الدفتر الكبير. يستمر في الكتابة وهو يلفظ :
- تمديد ... سنقضي معاً ستة أشهر أخرى " ثم يرفع عيناه وينظر إلي من أسفل لأعلى : "بناء على ملف سري" ويبتسم ببرود.
إنه هذا الدوار اللعين الي يأتي في أسوأ المواقف ... نفس الدوار، نفس الغثيان ... ستة أشهر أخرى ! شعرت أنه يقول لي "سنرقص معاً أشهر أخرى" ... لو أنه على الأقل تمكن أبو أحمد من الحفاظ على أرضه لما اكترثت ... أين هي رغد؟ أين يدها؟ أين ابتسامتها في لحظة كهذه ؟ أيادي الجنود تلتف حول ذراعيّ مرة أخرى، وتسحبني.
إنهم هنا. في الزنزانة المجاورة. أنني أسمع رفيقي يصرخ. إنهم يضربونه لأنه لم يستطع النهوض. جسمه هزيل حتى من قبل أن نبدأ الإضراب. أنا أعرف أنه عندما يصرخ يتألم أيضاً، لكنه لا يستطيع أن يصمد تحت هراواتهم دون صراخ. هل سأصمد أنا ؟ كم هي المسافة بيني وبين الموت الآن ؟ لا أعرف. لكنني أعرف أن هذا كله لن ينته هكذا. الناس في الخارج سيخرجون ! سينتفضون ! لن يتركوننا وحدنا ! لولا أننا نعرف أنهم سينتفضون لما بدلنا بالإضراب أصلاً ... أجل، سينتفضون ! سيخرجون ! في الواقع، هم قد بدأوا بالخروج بلا شك. لا بد أن المواجهات تندلع الآن في كل مكان. هذا أكيد ! فليس هناك بيت ليس فيه أسير أو أسير سابق ! ... أجل، سيخرجون ... سينتفضون ! وستكون رغد في مقدمة المسيرة، وسيكون أبو أحمد، ومحمود، وكل أهالي القرية حول أمي وأبي. سيمتلئ دوار المنارة بالناس، وحتى الحكومة في رام الله سيكون عليها أن تفعل شيئاً ... أجل، سأصمد !
إنهم هنا. إنهم يصرخون ويشتمون. لا أكترث. لن أتحرك من هنا حتى يأتوا هم ويأخذوني. ها هم ينقضون علي. يضربونني. أشعر أن عظامي تتكر ألف مرة داخل جسمي. إنهم يرفعونني. يا إلهي، كم صار وزني خفيفاً ! لا بأس. هم قساة هكذا لأنهم يعرفون أنهم يخسرون. إنهم يأخونني إلى مكان ما. هل هو العزل الانفرادي؟ يا إلهي ! كم من الوقت سأقضي هناك ! الغرفة المعتمة ذات المتر المربع، حيث لا أحد سواي، والعتمة ... كلا ! هذا مكتب الضابط ! ماذا يريد مني الآن ؟ هل سيحاول ثنيي عن الإضراب ؟ إنه يعرف أنني مريض، ولا يريدني أموت هنا. لا هو ولا حكومته يمكنهم تحمل نتائج موت أحدنا هنا ... لا بد أنه يريد إقناعي بالتوقف عن الإضراب. لا بد أن الشارع في الخارج يغلي ... إنهم يضعونني أمام الضابط، على هذا الكرسي المنخفض. الضابط لا يكتب في دفتره الكبير. إنه يبتسم، ينهض من مقعده، يدور حول المكتب، يمسك جريدة ويرميها أمامي ...
- تفضل ! " أنظر إليه، ثم إلى الجريدة، ثم إليه. لا أقول شيئاً. الضابط يدفع الجريدة نحوي : - خذ ! إقرأ ! ألست تحب القراءة يا أبو الكتب ؟ تفضل وانظر بنفسك ! " يرفع الجريدة ويدفعها نحو وجهي. لا أريد أن أقرأ. لا أريد أن أفعل ما يقول. لكن كلمة واحدة بالخط العريض قفزت وحدها من الورق وثقبت عيني : "عشرات" .
لا أريد أن أفكر. لا أريد أن أخمن ماذا تقول الجريدة. ليتني أفقد الوعي الآن ! الضابط يهمس لي :
- هل تعرف كم شخص جاء إلى التجمع اللطيف الذي نظمه أصدقاؤكم أمس لدعمكم؟ ... مئة شخص. مئة شخص بالعدد ! " - هذه البداية فقط ! " أقول له بصوت مجروح. - هذا هو كل شيء ! ليس هناك تتمة ! انتهى كل شيء ! هذا هو كل وزن إضرابكم التعيس هناك في الخارج ! " - كذاب ! " - أنا كذاب؟ هذه جريدتكم ! أنظر، هل هذا العنوان بالعربية أم بالعبرية ؟ أنظر بنفسك ! انتهى كل شيء ! " - كذاب ! " أصرخ بالقوة القليلة التي استطعت أن أجمعها ... - ألا تفهم ؟! لقد تخلوا عنكم ! كان هناك حفل راقص ليلة أمس حضره خمسمة شخص ! ماذا كنت تتوقع ؟ انتفاضة جديدة ؟ حبيبي ليس هناك من يكترث بعد الآن. كل ما استطاعت رام الله أن تخرجه لأجلكم كان مئة شخص، أتعتقد أنهم يخيفوننا ؟ "
بدأت أسمع دقات قلبي من جديد. هذا الغثيان الحقير يكتم أنفاسي. لا أقدر على الكلام. سمعي بدأ يتلاشى أيضاً. الضابط يهمس شيئاً ... هذه آخر كلمات أسمعها قبل أن تأتي أيادي الجنود :
- هل تريد أن تموت جوعاً ؟ تفضل ومت ! لم يعد الأمر يهمني ....
الدوار يتصاعد ... أين أنتي يا رغد ؟! رؤيتي تتشوش، أنا أغيب عن الوعي ...
صعقة كهربائية تجتاح صدري وأنا أفتح عينيَ فجأة. أنا على فراش الزنزانة ... أطرافي تؤلمني. لا أستطيع تحريك قدميّ ... كان كابوساً. والآن؟ هل هذا كابوس جديد أم الحقيقة ؟
إنهم يضربون الأبواب، إنهم يقتربون .والتف القاضي العسكري ببطئ، ومن تحت حاجبين مقطبين نظر باتجاهي، فقلت بأعلى صوتي :
- "أنت اليوم تضع في السجن ولداً، ولكن سترى الرجل الذي سيخرج ! وظل الصمت مخيماً على القاعة ...
ستة شهور أخرى. هذه المرة مرت بسرعة. كنت في زنزانة واحدة معى أربعة شبان، كلهم لي في الجامعة. كانوا يمضون الوقت في القراءة، ويتبادلون ملخص ما قرأوا مرة في الأسبوع. لم أكن اعرف كيف لهم أن يلتهموا الكتب بهذه السرعة، حتى في يوم أحدهم قدم لي كتاباً وقال أنه علي أنا أن أشرح محتواه في المرة المقبلة. قرأته كيفما استطعت، وفي الجلسة الأسبوعية كانوا هم من يشرح لي ما قرأت. قلت لهم أنني أريد تكرار التجربة. أن أنضم لهم. فأعطوني كتاباً أكبر وأسمك. قرأت في تلك الأشهر الستة أكثر مما قرأته طوال حياتي. لكن بعد الأشهر الثلاثة الأولى بدأت أحنّ لأهلي. لأبي، لأمي، للقرية، لرغد ... لم أعرف ماذا حل بأبي أحمد وبأرضه لأنهم منعوا عني الزيارة، لكن كنت أعرف جيداً أن الأرض ةصودرت. دائماً ينتهي الأمر هكذا. في اليوم الأخير حزمت أشيائي القليلة ووقفت في باب الزنزانة. عانقت رفاق زنزانتي واحداً واحداً، وقلت لهم أننا سنلتقي في الخارج. "الله معك يا كبير ! هتف أحدهم وأنا أغادر الزنزانة. لوحت لهم بيدي وأدرت ظهري. قلبي يدق، ككل مرة. هذه المرة ليس هناك ذعر. سأرى أبي بعد قليل ! هل يا ترى أتت رغد معهم أيضاً؟ كلا ! إنها تنتظرني في القرية لتزغرد مع أمي عند نزولي من السيارة ! أبو أحمد سيكون موجوداً بلا شك، ومحمود صديقي أيضاً ...
إنهم لا يقودونني إلى الخارج. هذا مكتب الضابط ! أنا لا أفهم ما يحصل ... أقف أمام الضابط وأصابعي تتعرق حول ممسك الحقيبة التي تعلق من كتفي. لا أعرف ماذا علي أن أشعر. الضابط لا يرفع بصره عن الدفتر الكبير. يستمر في الكتابة وهو يلفظ :
- تمديد ... سنقضي معاً ستة أشهر أخرى " ثم يرفع عيناه وينظر إلي من أسفل لأعلى : "بناء على ملف سري" ويبتسم ببرود.
إنه هذا الدوار اللعين الي يأتي في أسوأ المواقف ... نفس الدوار، نفس الغثيان ... ستة أشهر أخرى ! شعرت أنه يقول لي "سنرقص معاً أشهر أخرى" ... لو أنه على الأقل تمكن أبو أحمد من الحفاظ على أرضه لما اكترثت ... أين هي رغد؟ أين يدها؟ أين ابتسامتها في لحظة كهذه ؟
أيادي الجنود تلتف حول ذراعيّ مرة أخرى، وتسحبني.
إنهم هنا. في الزنزانة المجاورة. أنني أسمع رفيقي يصرخ. إنهم يضربونه لأنه لم يستطع النهوض. جسمه هزيل حتى من قبل أن نبدأ الإضراب. أنا أعرف أنه عندما يصرخ يتألم أيضاً، لكنه لا يستطيع أن يصمد تحت هراواتهم دون صراخ. هل سأصمد أنا ؟ كم هي المسافة بيني وبين الموت الآن ؟ لا أعرف. لكنني أعرف أن هذا كله لن ينته هكذا. الناس في الخارج سيخرجون ! سينتفضون ! لن يتركوننا وحدنا ! لولا أننا نعرف أنهم سينتفضون لما بدلنا بالإضراب أصلاً ... أجل، سينتفضون ! سيخرجون ! في الواقع، هم قد بدأوا بالخروج بلا شك. لا بد أن المواجهات تندلع الآن في كل مكان. هذا أكيد ! فليس هناك بيت ليس فيه أسير أو أسير سابق ! ... أجل، سيخرجون ... سينتفضون ! وستكون رغد في مقدمة المسيرة، وسيكون أبو أحمد، ومحمود، وكل أهالي القرية حول أمي وأبي. سيمتلئ دوار المنارة بالناس، وحتى الحكومة في رام الله سيكون عليها أن تفعل شيئاً ... أجل، سأصمد ! إنهم هنا. إنهم يصرخون ويشتمون. لا أكترث. لن أتحرك من هنا حتى يأتوا هم ويأخذوني. ها هم ينقضون علي. يضربونني. أشعر أن عظامي تتكر ألف مرة داخل جسمي. إنهم يرفعونني. يا إلهي، كم صار وزني خفيفاً ! لا بأس. هم قساة هكذا لأنهم يعرفون أنهم يخسرون. إنهم يأخونني إلى مكان ما. هل هو العزل الانفرادي؟ يا إلهي ! كم من الوقت سأقضي هناك ! الغرفة المعتمة ذات المتر المربع، حيث لا أحد سواي، والعتمة ... كلا ! هذا مكتب الضابط ! ماذا يريد مني الآن ؟ هل سيحاول ثنيي عن الإضراب ؟ إنه يعرف أنني مريض، ولا يريدني أموت هنا. لا هو ولا حكومته يمكنهم تحمل نتائج موت أحدنا هنا ... لا بد أنه يريد إقناعي بالتوقف عن الإضراب. لا بد أن الشارع في الخارج يغلي ... إنهم يضعونني أمام الضابط، على هذا الكرسي المنخفض. الضابط لا يكتب في دفتره الكبير. إنه يبتسم، ينهض من مقعده، يدور حول المكتب، يمسك جريدة ويرميها أمامي ... - تفضل ! " أنظر إليه، ثم إلى الجريدة، ثم إليه. لا أقول شيئاً. الضابط يدفع الجريدة نحوي : - خذ ! إقرأ ! ألست تحب القراءة يا أبو الكتب ؟ تفضل وانظر بنفسك ! " يرفع الجريدة ويدفعها نحو وجهي. لا أريد أن أقرأ. لا أريد أن أفعل ما يقول. لكن كلمة واحدة بالخط العريض قفزت وحدها من الورق وثقبت عيني : "عشرات" . لا أريد أن أفكر. لا أريد أن أخمن ماذا تقول الجريدة. ليتني أفقد الوعي الآن ! الضابط يهمس لي : - هل تعرف كم شخص جاء إلى التجمع اللطيف الذي نظمه أصدقاؤكم أمس لدعمكم؟ ... مئة شخص. مئة شخص بالعدد ! " - هذه البداية فقط ! " أقول له بصوت مجروح. - هذا هو كل شيء ! ليس هناك تتمة ! انتهى كل شيء ! هذا هو كل وزن إضرابكم التعيس هناك في الخارج ! " - كذاب ! " - أنا كذاب؟ هذه جريدتكم ! أنظر، هل هذا العنوان بالعربية أم بالعبرية ؟ أنظر بنفسك ! انتهى كل شيء ! " - كذاب ! " أصرخ بالقوة القليلة التي استطعت أن أجمعها ... - ألا تفهم ؟! لقد تخلوا عنكم ! كان هناك حفل راقص ليلة أمس حضره خمسمة شخص ! ماذا كنت تتوقع ؟ انتفاضة جديدة ؟ حبيبي ليس هناك من يكترث بعد الآن. كل ما استطاعت رام الله أن تخرجه لأجلكم كان مئة شخص، أتعتقد أنهم يخيفوننا ؟ "
بدأت أسمع دقات قلبي من جديد. هذا الغثيان الحقير يكتم أنفاسي. لا أقدر على الكلام. سمعي بدأ يتلاشى أيضاً. الضابط يهمس شيئاً ... هذه آخر كلمات أسمعها قبل أن تأتي أيادي الجنود :
- هل تريد أن تموت جوعاً ؟ تفضل ومت ! لم يعد الأمر يهمني .... الدوار يتصاعد ... أين أنتي يا رغد ؟! رؤيتي تتشوش، أنا أغيب عن الوعي ...
صعقة كهربائية تجتاح صدري وأنا أفتح عينيَ فجأة. أنا على فراش الزنزانة ... أطرافي تؤلمني. لا أستطيع تحريك قدميّ ... كان كابوساً. والآن؟ هل هذا كابوس جديد أم الحقيقة ؟
إنهم يضربون الأبواب، إنهم يقتربون.