العيش كصورة
كيف يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة
المصحّ الكبير: هل يعزز الفايسبوك الإدمان وخزعبلات نفسيّة أخرى؟
برمجة موقع الفايسبوك تقوم كما سبق وقلنا على تشجيع المستخدم على البقاء لأطول فترة ممكنة في تصفّح الموقع؛ هو يشجّعنا على أن نكون على اتصال دائم به، سواء كنا في المنزل، في العمل، على اللابتوب أو على الهاتف. وكما يعلم الجميع، أي شيء يستطيع أن يأخذ هذا الكمّ الهائل من وقتنا وانتباهنا يتحوّل إلى مشكلة، أو يكون لديه على الأقل نتائج سلبيّة كبيرة. كنّا قد تحدّثنا في مقالات سابقة عن تأثير الفايسبوك على العلاقات الاجتماعية، عن تأثيره على السعادة، عن تأثيره على الوقت والانتباه، وعن تهديده للخصوصية، لكن اليوم سنتحدّث عن مجال تأثير آخر يطاله الفايسبوك: تعزيز الميول النفسيّة السلبيّة التي تتحوّل أحياناً إلى مشكلات جدّية. المثال الأوّل الذي يحضر إلى ذهننا من هذه الناحية هو مشكلة الإدمان الالكتروني، ولعلّ المواقع الاجتماعية مثل الفايسبوك هي نوع جديد من الإدمان لم يألفه علم النفس سابقاً. خلال العامين الماضيين كانت مؤسسات علم النفس حول العالم تناقش ما إذا كان يجب إضافة “إدمان الفايسبوك” إلى النسخة الخامسة من الدليل الرسمي لتشخيص الاضطرابات النفسيّة المعروف باسم Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders، التي يُفترض أن تصدر في العام 2013. حين نلقي نظرة إلى العوارض المعروفة للإدمان المَرَضي، نرى أن معظمها ينطبق على جزء لا يستهان منه من مستخدمي الفايسبوك، وهي: - عدم استعمال المادة (مثل الامتناع عن الدخول إلى صفحة الفايسبوك) يؤدّي إلى حالة من التوتّر أو تغيّر المزاج. - الحاجة باستمرار إلى قضاء وقت أطول أو استعمال المزيد من المادّة للحصول على نفس نسبة الإشباع (مثل رفع معدّل الوقت المخصص لاستخدام الفايسبوك أو معدّل النشاط عليه). - من عوارض الإدمان أيضاً وجود صعوبة كبيرة بالنسبة للمدمن أن يقلع أو يوقف استخدام المادّة إرادياً ولو لفترة محدودة. - الأنشطة الاجتماعية والترفيهية للمستخدم تصبح متمحورة بشكل متزايد حول المادّة الإدمانيّة. - الإستمرار باستخدام المادّة حتى ولو أصبح استخدامها يؤثّر بشكل سلبي مباشر على الحياة المنزليّة أو الدراسة أو العمل (مثل إيقاف الدراسة من أجل استخدام المادة، الاستيقاظ ليلاً لاستخدامها، الخروج من العمل لاستخدامها، تحوّل المادّة إلى النشاط الترفيهي المفضّل). طبّياً، يكفي توافر ثلاثة من أصل الشروط الخمسة المذكورة آنفاً لكي يُشَخَّص أحدهم على أنّه مدمن. وحين نفكّر بالأمر، نجد أن معظمنا، ومن ضمنهم كاتب هذه السطور، عانينا في مرحلة ما من الإدمان على الفايسبوك. لكن الأمر لا يقف هنا؛ الإدمان على الموقع قد يترافق لدى البعض مع عوارض لمشكلة أخرى هي الوسواس القهري Obsessive Compulsive Disorder OCD. الغالبية الساحقة من الناس لديها اهتمام زائد بأمر ما يلامس الوسواس مثل النظافة والترتيب، الأمن الشخصي، التحقّق من البريد، التحقّق من السيّارة، التحقّق من وصول الأولاد للمدرسة…ألخ. وهذه كلّها اهتمامات طبيعيّة. لكنها تصبح وسواساً قهرياً حين تصبح الفكرة مهيمنة على عقولنا لدرجة أنها تصبح قادرة على دفعنا لتكرار أفعال “غريبة” مراراً وتكراراً مرتبطة بالوسواس. من الطبيعي مثلاً أن يقلق أي شخص في لبنان على سيارته من السرقة والحوادث، لكن ذلك يتحوّل إلى وسواس قهري حين تصبح هذه الفكرة مهيمنة على ذهن أحدهم لدرجة أنه ينزل من عمله ثلاث مرّات في اليوم ليتفقّد السيارة، ويوقف دراسته كل ربع ساعة لينظر إليها من النافذة ويطمئنّ، ويخرج من المطعم من لقاء مع الأصدقاء ليتفقّدها، كما أنه يستيقظ ليلاً ليتفقّدها، أكثر من مرّة أحياناً. هذه نسخة متطرّفة من الوسواس القهري، لكن يكفي أن نستبدل كلمة “السيّارة” في المثال المذكور بكلمة “فايسبوك” لنكتشف كم يلامس الفايسبوك الوسواس القهري لدى العديدين. فكم من مرّة نفتح الصفحة ونتأمّلها، ثم نغلقها لنعود ونفتحها بعد خمس دقائق حتى ولو كنّا نعلم أنه لا يوجد أي حدث جديد؛ وكم من مرّة ننسحب ذهنياً من لقاء مع الأصدقاء ونوقف عملنا وربّما نستيقظ ليلاً لنتفقّد الفايسبوك؟ هذه هي عوارض وسواس قهري. ظاهرة أخرى يعزّزها الفايسبوك قد تتحوّل مع الوقت إلى مشكلة جدّية هي مسألة الانتباه القصير الأمد short attention span. هذه مشكلة تعزّزها كل التكنولوجيات التي ترتكز على وتيرة سريعة من التغيّر، وهنالك اليوم دراسات عديدة حول ما إذا كان ذلك يؤدّي إلى تزايد اضطراب نقص الانتباه Deficit Disorder Attention الذي يعاني منه عدد كبير من أبناء جيلنا وعدد أكبر من المراهقين والأطفال. العوارض الرئيسية لاضطراب نقص الانتباه لدى البالغين تشمل: - عدم القدرة على التركيز على أمر واحد لفترة طويلة (مثل قراءة كتاب، المشاركة في محادثة، الجلوس في اجتماع طويل أو حلّ مسألة رياضيّة). - الملل السريع من معظم الأمور. - الالتهاء المستمرّ والانتقال بسرعة من أمر إلى آخر أو القيام بعدّة أمور بنفس الوقت من دون التركيز على أمر واحد. - صعوبة في إكمال الأعمال إلى النهاية، سواء كانت دراسة، عمل أم مشروع شخصي آخر. - عدم القدرة على الاستماع، مقاطعة أحاديث الغير، ووجود صعوبة في تذكّر المحادثات والاتجاهات الجغرافية. - عدم القدرة على الاهتمام بالتفاصيل ما يؤدّي غالباً إلى تسليم أعمال غير مكتملة أو فيها الكثير من الأخطاء. - قدرات تنظيمية ضعيفة (تنعكس على ترتيب المكتب، المنزل والسيّارة). - التأخّر الدائم عن العمل، المواعيد والمهل. في بعض الحالات القصوى، يتحوّل ذلك إلى نسيان كامل لبعض المواعيد والالتزامات والمهل. - إضاعة الأشياء باستمرار، مثل الهاتف، المفاتيح، الفواتير، الملفّات…ألخ. - التصرّف بسرعة قبل التفكير. هنالك صعوبة في تقدير ما إذا كان الفايسبوك يعزّز حقاً هذه الاضطرابات وإلى أية درجة، الحسم العلمي في هذا المجال يحتاج لدراسات ميدانيّة أكبر ليست متوافرة بعد. ما يمكن أن نقوله من تجربتنا الشخصية المتواضعة، التي قد تعكس تجربة كثر غيرنا مع الموقع، هي أن الفايسبوك يعوّدنا على وتيرة سريعة من التغيّر تستوجب انتباهاً قصير الأمد وتركيز متعدّد ومجزّأ (منذ وجودي على الفايسبوك مثلاً، فقدت قدرتي تدريجياً على قراءة مقال طويل)، وهذا بدوره يقضم من قدرتنا على التركيز ويؤثر على مجالات كثيرة في حياتنا من دون أن ننتبه. النرجسيّة هي ظاهرة أخرى يعزّزها الفايسبوك. عبقرية الفكرة التي صنعت فايسبوك تكمن في أنه يشبع رغبة أساسية موجودة في أعماق كل إنسان: الحصول على الاهتمام. كل الموقع مصمّم لكي يعطينا الإنطباع أنه يدور حولنا نحن فقط: إنه مكوّن من صورتنا، أصدقاؤنا، عملنا، إنجازاتنا وأفكارنا نحن وحتى الإعلانات هي موجّهة خصيصاً وفقاً لتفضيلاتنا، وكلّ ذلك مدعّم بعشرات اللايكات والتعليقات التي تشعرنا باستمرار أننا مركز الاهتمام. هذه الطريقة تعزّز التقدير الذاتي وذلك أمر إيجابي جداً في زمن يقوم على تحطيم الذات. الفايسبوك من هذه الناحية قد يكون أداة إيجابية إذ إنه يساعد الكثيرين حول الكوكب على اكتشاف قيمتهم وأهميتهم الذاتيّة بطريقة لم تكن متاحة لهم من قبل في وسطهم الاجتماعي، وهذه نقطة يجب أن نعترف فيها. لكن هنالك خيط رفيع يفصل بين تعزيز التقدير الذاتي وتعزيز النرجسيّة. النرجسيّة عبارة تستعمل أحياناً للحديث عن شخص يحبّ ذاته، لكنّ حبّ الذات أمر إيجابي وصحّي. لذلك، ما نقصده بالنرجسيّة هنا هو التعريف النفسي لها، أي الانغماس في حبّ الذات لدرجة تؤثر سلباً على علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين. الجانب السلبي من النرجسيّة يتمثّل في الهوس بالذات، الأنانية، الغرور، الشعور الزائد بالعظمة وتقديم الانجازات الفرديّة على أنها إنجازات عظيمة غير مسبوقة، إنشاء علاقات استغلالية، عدم الاكتراث تجاه مشاعر الآخرين أو فهم حقيقة مشاعرهم، الحاجة باستمرار لتلقّي التقدير والثناء من الآخرين أو عدم الاكتراث على الإطلاق بآرائهم، عدم القدرة على تقبّل النقد، الغيرة من انجازات الآخرين…ألخ. في بعض الحالات، حين تزيد شدّة هذه العوارض، تتحوّل النرجسيّة إلى اضطراب في الشخصيّة معروف باسم Narcissistic Personality disorder وهي من أصعب الاضطرابات النفسيّة في العلاج. مساهمة الشبكات الاجتماعية في تصاعد ظاهرة النرجسيّة هو أمر لاحظته العديد من الدراسات خلال العامين الماضيين. هنالك دراسة في جامعة بريغهام في بريطانيا خلصت إلى أن تحديث ستاتوسات الفايسبوك باستمرار يشير إلى أن الشخص لديه ميول نرجسيّة قوية، وتحديداً ما يسمّى النوع “الضعيف” من النرجسيّة حيث أن الشخص يسعى باستمرار للحصول على التقدير والموافقة من الآخرين. هنالك دراسات أخرى في هذا الاتجاه نوقشت في كتاب البروفيسور جان توينج بعنوان “آفة النرجسية: العيش في زمن الامتياز” The Narcissism Epidemic: Living in the Age of Entitlement. يقول توينج في خلاصة كتابه أن “بنية الشبكات الاجتماعيّة بحدّ ذاتها تكافىء مهارات النرجسيّ مثل الترويج للذات، اختيار الصور التي تمدح الذات وامتلاك العديد من الأصدقاء واللايكات”. هنالك مسألة أخرى نتساءل ما إذا كان الفايسبوك يعزّزها على الأمد البعيد وهي ما إذا كان الفارق بين الشخصيّة الالكترونية التي نقدّمها على الفايسبوك والشخصيّة الحقيقية التي نعيشها في الحياة يعزّز نوع من الفصام الحقيقي على أرض الواقع. على الأرجح أن طلّاب علم النفس اللذين يقرأون هذا المقال قد فهموا لماذا التساؤل هذا موجود في حالة تعتبر نادرة جداً. بعض الحالات النفسيّة التي قد يؤثّر الفايسبوك عليها (لكن لا يمكن تأكيد ذلك قبل دراسة ميدانيّة علميّة)، تحاكي المؤشرات التي يُعتمد عليها لأخذ الاضطراب الفصاميّ بعين الاعتبار، مثل: - وجود اختلاف كبير بين الشخصيّة الداخلية التي يشعر بها الشخص وبين الشخصيّة الخارجية التي تظهر للآخرين. - وجود صعوبة في التعبير عن المشاعر، خاصة حين التواصل وجهاً لوجه مع الآخرين. - البرود العاطفي، تجنّب العلاقات الحميمة، أو خلّو العلاقات الاجتماعية من الحميميّة. - عدم القدرة على الاستمتاع (الأشخاص المصابون بالفصام ليس لديهم القدرة أحياناً على تسميّة نشاط واحد يجلب لهم المتعة). - عدم القدرة على التركيز على أهداف طويلة الأمد في الحياة. هذه العوارض عامّة جداً وتنطبق على عدد كبير من الأشخاص العاديّين لأنها ليست العوارض التي تستعمل للتشخيص، هي فقط إحدى المؤشرات النفسيّة التي تدقّ ناقوس الخطر حول احتمال تطوّر الحالة النفسيّة إلى حالة فصاميّة (الفصام Schizoid personality disorder الذي نتحدّث عنه هنا هو أمر مختلف عن “الانفصام في الشخصية” Schizophrenia . الإنفصام مرض نادر جداً وشروطه صعبة، لكن الفصام قد يكون مرحلة أولى تجاهه). نحن لا نعلم إذا ما كانت الشبكات الاجتماعية كالفايسبوك تعزّز ميول فصاميّة ناتجة عن الاختلاف بين الشخصيتين الداخلية والخارجية، البرود العاطفي، تجنّب الحميميّة ووجود صعوبة في التعبير عن المشاعر، أو أنها فقط تظهر هذه الصفات على السطح أكثر من أيّ وقت مضى. في جميع الأحوال، يبقى ذلك موضوع جدير بالبحث. كل ما سبق لا يهدف للقول أن كل مستخدمي الفايسبوك لديهم اضطرابات ذهنيّة ونفسيّة، كما أنه لا يهدف للقول أن الفايسبوك هو سبب تزايد هذا النوع من الاضطرابات لأن أي خلاصة في هذا الشأن تحتاج لدراسات ميدانية لا تقع ضمن نطاق معرفتنا. لكن من المفيد أن ننتبه كيف أنه هنالك العديد من الميول والعادات الذهنيّة والنفسيّة السلبيّة التي يعزّزها الفايسبوك، ويجب بالتالي أن ننظر إليه بعين نقديّة وأن نكون متيّقظين تجاه هذه العوارض لأنها تشكّل الخطوة الأولى نحو اضطرابات حقيقيّة (خاصة فيما يتعلّق بالإدمان واضطراب نقص الانتباه). لا نعلم ما إذا كان الفايسبوك يساهم في تحويلنا إلى مصحّ كبير أم أننا كنّا نعيش في مصحّ كبير في الأصل والفايسبوك أخرج ذلك إلى العلن فحسب؛ في الحالتان، وضعنا كبشريّة في زمننا الحالي مثير للاهتمام!