تفكيك الاقتصاد الفلسطيني
منذ اليوم الأول لاحتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة يوم 5 يونيو/حزيران 1967، سعت "إسرائيل" من خلال عملية مخطط لها مسبقاً إلى تفكيك الاقتصاد الفلسطيني وتهميش قطاعاته الرئيسية مثل الزراعة، بغية ربطه بالاقتصاد الإسرائيلي ولمصلحته في نهاية المطاف. واستطاعت السلطات الإسرائيلية السيطرة بشكل تدريجي على أهم الأراضي الزراعية لصالح الأنشطة الاستيطانية التي لم تتوقف رغم عقد اتفاقات أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993. كما صادرت النسبة الكبرى من إجمالي الموارد المائية الفلسطينية المتاحة والمقدرة بنحو 750 مليون متر مكعب. وقد أدى ذلك إلى تهميش قطاع الزراعة الفلسطيني، مما دفع آلاف العمال العرب في الضفة والقطاع إلى العمل في الاقتصاد الإسرائيلي ووفق شروطه المجحفة، وذلك رغم رفع شعار مقاطعة العمل العبري في السنة الأولى من عمر الاحتلال. من أجل تفكيك الاقتصاد الفلسطيني أصدرت المؤسسة الإسرائيلية قوانين تم من خلالها السيطرة على البنوك الفلسطينية وإلحاقها بالبنوك الإسرائيلية. وتبعاً للسياسات الاقتصادية الإسرائيلية، تراجع أداء الاقتصاد الفلسطيني في كافة قطاعاته، وخاصة قطاع الزراعة الذي كان يساهم بالنسبة الكبرى في الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، وكذلك في استيعاب عدد كبير من قوة العمل الفلسطينية. ولم تسعف اتفاقات أوسلو الاقتصاد الفلسطيني، بل أبقت على تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي، وأصبح السوق الفلسطيني ثاني سوق بعد الأميركي في إطار العلاقات التجارية الإسرائيلية الدولية، إذ تهيمن "إسرائيل" على أكثر من 90% من إجمالي التجارة الخارجية الفلسطينية بشقيها الصادرات والواردات. والثابت أن نسبة الصادرات الإسرائيلية إلى السوق الفلسطيني كانت على الدوام أعلى من نسبة الواردات منه، الأمر الذي جعل العجز التجاري الفلسطيني مع الاقتصاد الإسرائيلي سيد الموقف. ولهذا لم يكن بمقدور السلطة الفلسطينية تحقيق تنمية تلبي طموحات الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، مما أدى إلى الاعتماد المتزايد على المساعدات الدولية، وبات وجود السلطة واستمرارها مرهوناً بانسياب المساعدات الدولية إليها.شرك المساعدات واحتمال انهيار السلطة
أشرنا في السابق إلى أن اتفاقات أوسلو أبقت السيطرة كاملة على الأداء الكلي للاقتصاد الفلسطيني، فثمة نحو عشرين ألف عامل يعملون في الاقتصاد الإسرائيلي في بداية العام الحالي 2013، مقابل نحو 120 ألفا قبل انطلاقة انتفاضة الأقصى نهاية سبتمبر/أيلول 2000. تلك المقدمات جعلت المجتمع الفلسطيني عرضة لابتزازات سياسية دائمة من قبل المؤسسة الإسرائيلية التي جعلت من الضرائب المفروضة على العمال العرب من الضفة والقطاع الذين يعملون في الاقتصاد الإسرائيلي، عنواناً آخر للضغط ومحاولة إخضاع الفلسطينيين سياسياً. وتشير دراسات اقتصادية دولية إلى تراجع أداء الاقتصاد الفلسطيني كنتيجة مباشرة لسياسات الاحتلال الاقتصادية. وتشير دراسات اقتصادية إلى ظهور أزمات اقتصادية مستعصية، من أهمها البطالة التي بلغت معدلاتها نحو 60% في قطاع غزة، ونحو 30% في الضفة الغربية خلال العام المنصرم 2012، وكان لذلك تداعيات خطيرة على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع, فقد انتشر الفقر المدقع بين نحو 60% من المجتمع الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية. وقد تواجه السلطة الفلسطينية خطر الانهيار وانفراط العقد في ظل ربط انسياب المساعدات الدولية بانطلاق المفاوضات مع "إسرائيل" دون شرط فلسطيني لتجميد الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومن بينها القدس. لكن الثابت أن معادلة ربط المفاوضات مع استمرار وبقاء المستوطنات جاثمة على صدر الفلسطينيين، باتت مرفوضة من الشعب الفلسطيني الذي يطالب بتفكيك معالم الاحتلال الإسرائيلي وبشكل خاص المستوطنات الإسرائيلية، فضلاً عن تفكيك جدار الفصل العنصري الإسرائيلي الذي سيبتلع المزيد من أراضي الضفة الفلسطينية.المصالحة كمدخل لدرء المخاطر
رغم الحديث المتكرر عن قرب جعل المصالحة الفلسطينية حقيقة ماثلة على الأرض، فإن ثمة عقبات تحول دون ذلك، في المقدمة منها المساعدات الدولية التي أشرنا إليها في أكثر من مكان، حيث لوحت الدول المانحة -وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي- غير مرة بإيقاف ضخ المساعدات المشروطة للسلطة الفلسطينية إذا تمت المصالحة الفلسطينية. لقد عانى الشعب الفلسطيني منذ صيف عام 2007 من تداعيات الانقسام الحاد بين القوى والفصائل المختلفة. ورغم انعقاد عدة جلسات من أجل إبرام المصالحة في كل من القاهرة والدوحة، وقبل ذلك في مكة المكرمة، فإنها بقيت مجرد شعارات في وسائل الإعلام، ويبدو أن هناك معوقات أساسية تحول دون إتمام المصالحة الحقيقية. وقد يكون من بين تلك المعوقات محاولة بعض أصحاب المصالح والامتيازات التي تولدت بفعل تداعيات الانقسام، الإبقاء على الجغرافيا السياسية المستحدثة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. ويرى محللون أنه لو تم تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، فسيفسر ذلك بكونه عملية تكيف أو إدارة أزمة لحالة الانقسام التي امتدت لأكثر من خمس سنوات. إن مواجهة التحديات التي تعصف بالقضية الفلسطينية، ومنها التحدي المتمثل في محاولة إخضاع الشعب الفلسطيني سياسياً عبر شروط الدول المانحة للمساعدات، تتطلب الإسراع بعقد المصالحة وجعلها واقعاً ملموساً في الداخل الفلسطيني والشتات، ولا يتطلب الأمر سوى إرادة سياسية صادقة من قبل كافة القوى والفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركتا فتح وحماس. وقد يؤسس ذلك لمطالبات حقيقية تتمثل في تحقيق بدائل عربية رسمية وشعبية لجهة تقديم مساعدات مالية سخية للفلسطينيين، بغية تفويت الفرصة على الدول المانحة التي تسعى لإخضاع الفلسطينيين سياسياً للمطالب والشروط والتوجهات الإسرائيلية للتسوية. لكن قبل الحديث عن مساعدات عربية محتملة للفلسطينيين كبدائل للمساعدات الدولية، لا بد من تحسين أداء القائمين على المال العام الفلسطيني، والقيام بعملية إصلاح حقيقية في إدارة المال الذي هو للشعب الفلسطيني في المقام الأول وليس لشخوص ومحسوبيات وفصائل بعينها. فبترتيب البيت الفلسطيني يمكن الحديث عن قوى كامنة بمقدورها مواجهة التحديات التي تعصف بالقضية الفلسطينية، ومن أهمها الابتزاز السياسي اليومي الذي يواجهه الفلسطينيون نتيجة الوقوع في شرك المساعدات الدولية المشروطة في الأساس. وقد يعزز من تلك القدرات الكامنة عند الفلسطينيين قبول فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة، فضلاً عن حصول فلسطين على عضوية اليونسكو، فتحقيق المصالحة الفلسطينية سيكون مدخلاً لدبلوماسية هادئة يمكن أن يتبناها الفلسطينيون لنيل العضوية في كافة المنظمات المتفرعة عن المنظمة الأممية من جهة، والسعي للحد من ضغوط وشروط الدول المانحة للفلسطينيين من جهة أخرى.