في الثامن والعشرين من آب/أغسطس لعام 2013 تجمع حشد من الشباب والشابات في رام الله للسير في تظاهرة سلمية احتجاجاً على المفاوضات المدانة، والمهينة بحق الشعب الفلسطيني، والتي حملت كسابقاتها تنازلات من قبل سلطة رام الله مسّت الثوابت والحقوق للقضية الفلسطينية وعبرت عن تفريط مذهل حتى بالنسبة إلى مواصلة الاستيطان وتهويد القدس.
وكان قد اقتضى انطلاق تلك التظاهرة أسباب هامة أخرى تمثلت في استنكار المجزرة التي ارتكبها العدو الصهيوني في قتل ثلاثة أبطال في مخيم قلندية، كما استنكار الجريمة التي ارتكبتها، وياللعار، الأجهزة الأمنية الفلسطينية في قتل مناضل بطل في مخيم عسكر. وقد رفعت التظاهرة أربعة نعوش رمزية، ثلاثة منها لشهداء قلندية والرابع لشهيد مخيم عسكر. الأكثر إيلاماً. لأن القتلة من أجهزة الأمن الفلسطينية التي تقف في الخط الأول في الدفاع عن الاحتلال والاستيطان، وفي حماية التنازلات الفلسطينية التي هبطت في عهد محمود عباس إلى حضيض لم يبلغه فلسطيني من قبل.
من يستطيع ألاّ يرى في تلك التظاهرة عملاً وطنياً من أعلى مستوى، وإقداماً شجاعاً لا مستقبل للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة من دونه. فالضفة الغربية أخذت تتلاشى مع استشراء الاستيطان. والقدس أخذت تضيع مع هجمة التهويد، في ظل تجدّد التفاوض مع الكيان الصهيوني. مما يعمّق الانقسام، ويضاعف من المخاطر التي تتعرّض لها قضية فلسطين. ويغطي ما يجري من تآمر لنـزع سلاح قطاع غزة، وإعادة محمود عباس إليه، أي إعادته إلى الاحتلال والاستيطان والتهديد كما هو الحال في الضفة الغربية.
ثم من يستطيع ألاّ يرى في هجمة أجهزة الأمن الفلسطينية لقمع تلك التظاهرة وتشتيتها غير الإجرام والإيغال في تحقيق الهدف الذي أنشأها دايتون من أجله. وهو ما عبّر عنه محمود عباس وسلام فياض بمنع أيّة مقاومة للاحتلال وقمع أيّة تظاهرة ضدّه ناهيك عن الوصول إلى الانتفاضة الشعبية التي من شأنها إذا ما توّفرت ظروفها أن تطيح بالاحتلال وتفرض تفكيك المستوطنات وتستنقذ القدس وتطلق كل الأسرى.
فنحن إذن أمام حالة استثنائية من عدالة موقف ثلة من الشابات والشباب، بل حالة استثنائية من الشجاعة والإقدام والبطولة في معركة لا مثيل لها في فرادتها: تظاهرة في أساسها ضدّ الاحتلال الصهيوني انبرت سلطة رام الله وأجهزتها الأمنية لتقمعها فيما الاحتلال والاستيطان في الأمان والاطمئنان التامَيْن.
ذلكم هو الوجه الرئيسي والأول والوحيد الذي يحدّد الوقوف إلى جانب تلك التظاهرة وتحية الذين خاضوها تحت عصي أجهزة الأمن، وقد سالت دماء البعض وأثخنت أجساد البعض الآخر ضرباً ومن أفلت أفلت بركلة أو ركلتين.
أجهزة الأمن مجهزة بكل ما تحتاج إليه لباساً وخوذاً ودروعاً وهراوات، كما هي مدربة على كل ما يمكن أن يخرجه اللسان من بذاءات وإهانات ولعن وسباب. وهذه كلها يُدرَّب عليها في أثناء إعداد "الأشاوس" الذين سيمارسون التعذيب أو يتصدّون للتظاهرات.
وبالفعل صوّرت أجهزة الفيديو أجهزة الأمن وهي بكامل عدتها وعتادها واستعدادها وهي منقضة على الشباب والشابات شتماً وضرباً وافتراساً كما تفعل الذئاب الجائعة مع فرائسها العزلاء من الأنياب والمخالب.
وصورّت أجهزة الفيديو مناظر فريدة لشابات وشباب يدافعون عن أنفسهم بشجاعة رائعة شكلت نموذجاً لما يجب أن يكون عليه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وتحت سلطة تقوم مقام الاحتلال في القمع والكبت والاضطهاد إلى جانب شراء الذمم وإفساد الضمائر والحطّ بالوعي السياسي والموقف الأخلاقي إلى الدرك الأسفل.
وكان من الطبيعي حين يشتبك المتظاهرون بأيديهم العارية مع عصي أجهزة الأمن وأن تعلو الهتافات ويردّ بالشتائم الشخصية بمثلها، كما يحدث في أي عراك عادي. ويندر من لم يمارسه يافعاً أو كبيراً.
وإذا بالبعض يرى في صوت إحدى الفتيات (أو أكثر من فتاة) رداً بشتائم على الشتائم البذيئة والعبارات النابية التي وجهت إليها- إليهن فيما كن يدفعن بأيديهن العصي التي امتدت إلى أجسادهن، بأنها ارتكبت خطأ أخلاقياً، أو ردّت بطريقة غير حضارية.
ووصل الأمر بالبعض إلى اعتبار أن الوجه الرئيسي لما حدث هو تجرؤ إحدى الفتيات أو أكثر على ردّ الاعتداء الكلامي بمثله، ونسي القضية التي خرجن من أجلها. وانهالت الدروس في الأخلاق والحضارية.
إن الضجة التي أثيرت حول هذه القضية في نقد من شتمن المعتدين عليهن وهن في قلب الاشتباك لم تأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان، كل إنسان سويّ ,أخلاقي وحضاري، حين يأخذه الغضب وهو يشتبك بالأيدي مع معتد عليه، لا مفرّ من أن تخرج منه عبارات لا يستخدمها في الحالات العادية أو في النقاشات العادية. هنا يرتفع منسوب الغضب (الأدرنالين)، مما يسمح، أو يعذر، بأن يسود قانون آخر غير القانون الذي يحكم الحياة العادية.
فالفتاة التي أهينت بالشتائم والاعتداء وكانت شجاعة وباسلة فأقدمت ولم تهرب، وأفلت لسانها بشتائم بما يظل في كل الحالات أدنى مما وُجِّهَ إليها، كيف تُلام بدلاً من تحيتها، وبدلاً من أن تُلقى الدروس الأخلاقية والحضارية على المعتدين الذئاب المفترسة بل أن تلقى الدروس على الموقف السياسي الذي يمثلونه حيث يحتاجون إلى دروس في الوطنية والأخوة الفلسطينية والعروبية والإسلامية والإنسانية كذلك.
فالذي يقتل في حالة الغضب والدفاع عن النفس لا يعتبر متعمداً فكيف حين تفلت منه عبارات في مثل الحالة التي واجهت شابات تلك التظاهرة وشبابها حيّاهم الله فقد كن وكانوا فخرنا. والأخلاق أن تلعن الأجهزة الأمنية الفلسطينية بكل لسان.