شبكة قدس الإخبارية

وحدنا معاً لماذا تركت الفايسبوك؟ (2)

طوني صغبيني

العيش كصورة

كيف يجعلنا الفايسبوك أكثر تعاسة(2)

 

وحدنا معاً لماذا تركت الفايسبوك؟

انتشر موقع الفايسبوك بين الشباب اللبناني ابتداءً من أواخر العام 2006 تقريباً، ورغم أن معظم زملائي في صفّ السنة الرابعة في تخصّص العلوم سياسيّة في الجامعة اللبنانية انشأوا حسابات على الموقع خلال هذه الفترة إلا أنني تأخّرت في فتح حساب حتى أواخر العام 2007. خلال هذه الفترة، كان عملي الجديد كمحرّر صحافي في جريدة الأخبار، يقتضي منّي الجلوس ما بين 9 و 14 ساعة أمام الحاسوب. إنشاء حساب على الفايسبوك لم يستوجب قرار، فكلّ أصدقائي كانو هناك، ومع الانتقال من العمل إلى الجامعة كان من الصعب الحفاظ على نفس وتيرة اللقاءات مع الأصدقاء، فبدا الفايسبوك حلّاً طبيعياً للمحافظة على حياتي الاجتماعية السابقة. منذ عام 2007 حتى بداية عام 2012، لم يكن وجودي على الفايسبوك ذا وتيرة ثابتة: كنت أنساه أحياناً لأسابيع، وكنت أفتحه لخمس ساعات في اليوم أحيان أخرى، خاصة في الفترات التي أكون فيها منخرطاً بحملة سياسيّة، مدنيّة أو بيئيّة. خلال خمس سنوات، استعملت الفايسبوك في كلّ شيء تقريباً: النشاط السياسي، التواصل مع الأصدقاء السابقين، التواصل مع أفراد العائلة في الخارج، التعرّف على أصدقاء جدد، الإطلاع على آخر الأخبار، التفاعل مع كل أنواع الناس، التعرّف على مدونين وكتابات ما هبّ ودبّ من الشباب، نشر كتاباتي الخاصة، وبطبيعة الحال، البحث عن حبيبة – أو بتعبير أقل شاعريّة، التعرّف على فتيات. لكن بعد خمسة أعوام على الفايسبوك، لاحظت أن مستوى التفاعلات الإنسانية الحقيقيّة في حياتي تدنّى كثيراً. أسباب ذلك التراجع متنوّعة، بعضها طبيعي مثل سفر صديقين مقرّبين إلى الخارج بسبب العمل، تزوّج صديقة وانتقالها لدولة أخرى، وانشغال أصدقاء آخرين بمشاغل جديدة مثل الزواج والعمل. لكن، وهذا ما لاحظته بشكل عام خلال العام المنصرم، كان هنالك أسباب أخرى غير مرتبطة بي أو بأصدقائي بل بطبيعة علاقاتنا الاجتماعية في الزمن الراهن. خلال هذه الفترة، نمى إحساسي بأنه هنالك نقص غريب في حميميّة معظم التفاعلات الإنسانية في يومي؛ الكلّ يبدو كأنه أقل حضوراً، أقل إنسانيّة، مستعجل ومرهق بشكل دائم، وأكثر ميكانيكية وبرودة، لكن الكل كان يعيش على الفايسبوك أفضل أيامّه. الواقع كان أن الغالبية كانت أكثر تعاسة بكثير من بروفايل الفايسبوك الخاص بها. في لحظات كثيرة، شعرت كأنه هنالك شيزوفرينيا جماعيّة اجتاحت الكوكب: الفايسبوك أسعد أمم الأرض، لكن ناس الأرض مرهقون ومتعبون ويخسرون صلاتهم الحميمة مع بعضهم البعض يوماً بعد يوم. حينها بدأت أفكّر جدياً ما إذا كان فيض التكنولوجيا الالكترونية في حياتنا قد جعلنا أقلّ اتصالاً مع بعضنا البعض وأكثر اتصالاً بأجهزتنا؛ هل أصبحنا متعلّقون بصورنا الجميلة على الفايسبوك لدرجة أننا فقدنا صلتنا مع هويتنا الحقيقية كأشخاص؟ هل نموّ اعتمادنا على الشاشات الباردة في تفاعلاتنا اليوميّة مع الآخرين هو مساهم في جعلنا أقل سعادة؟ أحداث العام الماضي أكّدت لي هذه الفرضيّة، خاصة مع بروز البلاكبيري الذي قضى على الذكاء الاجتماعي لملايين الأشخاص حول الكوكب في وقت قياسي. خلال العام المنصرم، أردت التعامل مع الفايسبوك على أنه مختبر، فبدأت بملاحظة أمور لم أكن ألاحظها سابقاً. لاحظت كيف أنه هنالك أصدقاء يظهرون على الفايسبوك كأنهم ملوك الكون فيما يغرقون في كآبتهم ووحدتهم أكثر، اكتشفت كيف أن نحو 50 % من لائحة أصدقائي على الفايسبوك قد التقيهم في الشارع اليوم من دون أن نلقي التحية على بعضنا البعض، اكتشفت كيف أنه كلما كانت قاعدة الأصدقاء على الفايسبوك أكبر، كلما كان لدينا علاقات حقيقيّة أقلّ. هنالك بعض الأصدقاء اللذين بات هنالك صعوبة في إقناعهم بالنهوض عن الكنبة وإطفاء اللابتوب والخروج للتسكّع بدل الجلوس على الفايسبوك. وهنالك أصدقاء حوّلوا الفايسبوك إلى بديل عن العلاقة الإنسانية؛ لا يتفاعلون معنا إلا عبر الفايسبوك، ولا يتذكّرون أعياد ميلادنا إلا عبر الفايسبوك. واكتشفت كيف أنه هنالك أصدقاء لن يلاحظوا غيابنا عن حياتهم إن أقفلنا حساباتنا على الفايسبوك. خلال تشرين الثاني من العام الماضي، استغلّيت استحقاق سفر إلى الخارج لإقفال حسابي على الفايسبوك لأسبوعين، وكانت التجربة مثيرة للاهتمام. خلال الأيام التي كنت فيها من دون فايسبوك، كنت “حاضر” بشكل أكبر في التفاعل وجهاً لوجه مع الناس، كنت حاضر بشكل أكبر في كل شيء في الواقع، انتباهي لم يكن مشتتاً في هاجس تحميل صور من الرحلة ومشاركة ستاتوسات ذكية مع 600 مجهول على الموقع الأزرق. حتى أن تفاعل الأصدقاء معي في الرحلة حين كانوا يعلمون أنني لا امتلك حساب على الفايسبوك كان أفضل؛ ربّما لأن الفايسبوك ليس متوافراً لإعطاء الشخص الآخر كل المعلومات الشخصية الخاصة بي وقتل مضمون المحادثات، وربّما لأن التفاعل معي وجهاً لوجه كان الطريقة الوحيدة للتواصل. بدل الاستمتاع بالرحلة، كان معظم المشاركين مهووسين بالاتصال بالانترنت وتحميل الصور وإخبار العالم عن النشاطات الرائعة التي يفعلونها في النيبال. لكن الواقع هو أنهم لم يستمتعوا بالنشاطات لأنهم كانوا مشغولين بكيفيّة تصويرها وإعلانها على الفايسبوك للعالم. خلال الفترات المسائية، كان معظم المشاركين يهرولون إلى غرف الفندق للاتصال بالانترنت والفايسبوك والحديث عن روعة يومهم مع أصدقائهم الافتراضيين، فيما كنت مع حفنة صغيرة نتسكّع في الأروقة والحدائق ونضحك ونتحدّث حتى ساعات متأخرة من الليل. في نهاية الرحلة، كانت تجربتي جميلة وغنيّة باللحظات التي لا تقدّر بثمن؛ لم يلتقط أحد صورة لها، ولم يضعها أحد على الفايسبوك، ولم يشاركها أحد كستاتوس، لكنها حفرت عميقاً في حواسي وذاكرتي وروحي وسأحملها معي للأبد. معظم اللذين كانوا مهووسين بتحديث الفايسبوك خلال الرحلة حصلوا على صور جميلة وربّما ظهروا كأنهم قضوا إحدى أجمل تجارب حياتهم، لكنّهم كانوا غائبين، غائبين عن اللحظة، غائبين عن الحياة، وحاضرين على الفايسبوك فقط. رغم أنني كنت قد قرأت بضعة كتب وعدد كبير من المقالات حول الفايسبوك وتأثيره على علاقاتنا الإنسانية إلا أن هذه التجربة القصيرة كانت نقطة التحوّل في نظرتي الشخصيّة للإعلام الاجتماعي وحتى للعلاقات الإنسانية بشكل عام. قد تكون هذه التجربة حوّلتني إلى ما أحبّ أن اسمّيه أحياناً “رجل كهفي”، وهو إنسان ما قبل الفايسبوك الذي لا يزال يؤمن بالعلاقات الإنسانية الحقيقية وينظر لتكنولوجيا الاتصالات المعاصرة بعين نقديّة. المشكلة الأخرى للفايسبوك التي كانت تزعجني في تلك الفترة أيضاً هي قدرته على التأثير المباشر على انتباهي والاستيلاء على كميّة كبيرة من وقتي لدرجة تلامس الإدمان أحياناً. لكن ذلك لم يكن يؤرقني بقدر ما كان يزعجني الاستبدال اليومي للتفاعل الإنساني بزرّ Like على الفايسبوك. بعد تلك التجربة، عدت إلى الفايسبوك لنحو شهرين، لكنّي بتّ أعلم أنها مسألة وقت فقط قبل أن أتركه مرّة ثانية، وربّما بشكل نهائي هذه المرّة. خلال هذه الفترة، قامت صديقة عزيزة بإقفال حسابها على الفايسبوك من دون أن ألاحظ ذلك لعدّة أسابيع؛ فخجلت من نفسي، وشعرت بأنني تحوّلت إلى مجرّد رقم الكتروني من دون أن أدري، وقرّرت أن الوقت حان لإقفال حسابي بشكل نهائي. مرّ نحو شهرين منذ إقفال حسابي على الفايسبوك حتى لحظة كتابة هذا المقال، وأستطيع أن أقول أن حياتي تحسّنت منذ تلك اللحظة ولم ينقص منها أي شيء تقريباً. الأمور الإيجابية التي شعرت بها بوضوح بعد إقفال الفايسبوك هي حيوية أكبر في يومي (التحقّق من الفايسبوك يأخذ طاقة ذهنية ووقت أكثر مما كنت أتوقّع)، ازدياد انتاجيتي في العمل والدراسة، ضجيج الكتروني وإخباري ومعلوماتيّ أقل في حياتي، تحسّن علاقاتي وتواصلي مع الآخرين، قدرة أكبر على التركيز على الكتابة وعلى العمل على أي مشروع طويل الأمد يتطلّب جهداً متواصلاً لساعات طويلة، والأهم من ذلك كله أنني أصبحت أكثر “حضوراً” في الحياة بشكل عام وأكثر تقديراً للعلاقات والصلات الإنسانيّة. اليوم أجد نفسي خائف من قناعاتي لأنني بلغت مرحلة لم أعد أفهم فيها لماذا كنت على الفايسبوك أساساً، أو لماذا كبشر نصرّ خلال هذه الفترة على اختراع الأدوات التي تبعدنا عن بعضنا البعض وعن الواقع بشكل عام. اعترف أنني استفدت كثيراً من الفايسبوك خاصة لأنني تعرّفت على أشخاص عزيزين لم يكن من الممكن أن ألتقيهم بطريقة أخرى، لكنّي أتساءل أيضاً ما الذي خسرته من أمور مباشرة حولي طوال هذه الفترة، وكم من شخص مرّ قربي في الحياة ولم أنتبه له لأنني كنت مشغول بتصفّح هذا الموقع؟ خلاصة تجربتي المتواضعة عبّر عنها الشاعر الإنكليزي توماس إليوت (1888 – 1965) حين كان يتحدّث عن الراديو، لكن ما قاله ينطبق على الفايسبوك أيضاً: “إنه وسيلة ترفيه تتيح لملايين الأشخاص أن يستمعوا لذات النكتة في وقت واحد والبقاء في نفس الوقت، وحيدين”. الفايسبوك جمع الناس في مكان واحد، لكنه جعلهم معزولين عن بعضهم البعض أكثر من أي وقت مضى. “وحدنا معاً”، هو الإسم الحقيقي للفايسبوك. وهذا ما دفعني شخصياً لمغادرته.