جنود مجهولون ومساندة شعبية
اضطر الفرسان الثلاثة أحياناً، لتفقد عائلاتهم وأبناء بلدتهم، الأمر الذي كان يخرجهم بشكل مكشوف في الشوارع حتى لو سلكوا الطرقات الفرعية فإن ذلك لا يفيد، فمنزل عائلة الشهيد جمال ملوح يقع مقابل معسكر "ياكير" الاسرائيلي في أطراف البلدة، وكذلك منزل عائلة الشهيد اياد الخطيب فهو يقع على الدوار الغربي مقابل البلدة القديمة أي على الشارع الرئيسي وسط ديراستيا، الأمر الذي يجعل من خروجهم اضطرارياً أمراً لا مناص منه، وهنا كان الاحتلال على أهبة الاستعداد، فما إن يتلقى اشارة العملاء بالاقتحام، حتى تدخل اليات الاحتلال على وجه السرعة الى قلب البلدة، لكن شبان المقاومة الشعبية كانوا بالمرصاد دوماً، فهم يعرفون ما يفعلونه تماماً، فتبدأ المواجهات مع الجيبات الاسرائيلية من أجل إعاقة تقدمها، ليتسنى للمطاردين المغادرة الفورية للمنطقة.
[caption id="attachment_24931" align="aligncenter" width="360"]
المنطقة الغربية من البلدة القديمة في دير استيا[/caption]
تواضع جم.. ولا سلاح مكشوف!
طوال رحلة المطاردة لم يقم الفرسان الثلاثة بالاشتباك المسلح مع الاحتلال داخل البلدة، رغم امتلاكهم لقطع السلاح والذخيرة، ولم يكونوا يظهرون بأي نوع من السلاح بحوزتهم أثناء تواجدهم بين أهل البلدة في الشوارع، وإن وجد مسدس شخصي احتياطاً فكان مكانه الدائم تحت الملابس في الحل والترحال.
لقد كانوا يشفقون على أهالي بلدتهم من ردة فعل الاحتلال وممارساته، التي كانت تتصاعد بكل وحشية بدون وجود مواجهات مسلحة داخل البلدة، ولكنهم كانوا طليعة المقاومة الشعبية حتى خلال مطاردتهم، وكانوا على اتصال دائم بكل مجريات الوضع الميداني في البلدة.
تواضع جم، واحترام متبادل، وابتسامات لا تفارق الوجوه، هكذا كان الفرسان خلال رحلة مطاردتهم، إنها أخوة حقيقية رفاق الزقاق الواحد، ورفاق الدرب الواحد، ورفاق السلاح الواحد، من أجل وطن واحد، والهدف لعدو واحد، لم يفكروا ولو للحظة واحدة بأي تعصب حزبي أو فصائلي، بل كانوا يؤمنون بأنهم أبناء هذه الأرض، وكانوا موقنين بوحدة الدم والمصير والقدر.
"فص ملح وذاب"
رغم الاقتحام اليومي بحثاً عن المطاردين إلا أن القدرة الإلهية كانت تتجلى لحمايتهم في كل موقف، بصحبة الإرادة والحنكة التي يتمتع بها الثلاثة، فهم يعرفون البلدة القديمة في ديراستيا شبراً بشبر، وزقاقاً بزقاق، ونفقاً بنفق، بعكس جنود الاحتلال الذين لم يدخلوا الأزقة إلا بعد سنين طويلة، وهنا كان الغضب يسيطر على قائد المنطقة الاسرائيلي، فهل يعقل أن تقوم كتيبة كاملة بتمشيط البلدة القديمة لساعات طوال، دون العثور على أي أحد من الثلاثة.
[caption id="attachment_24932" align="aligncenter" width="361"]
أحد أزقة دير استيا[/caption]
العائلات القاطنة في بيوتها داخل البلدة القديمة في ديراستيا، كانت الهدف غالباً، فيستخدم الجنود رجالها كدروع بشرية أثناء عمليات التفتيش الواسعة، وكان يتخلل الاقتحامات جملة من المضايقات والازعاج المستمر بلا توقف من قبل جنود الاحتلال، ناهيك عن عملاء الاحتلال الذين كانوا لا يفارقون البلدة القديمة والمناطق المحيطة بها، وكالعادة يخرج الفرسان الثلاثة في اليوم التالي ليثبتوا عبثية حملات الاحتلال.
عذاب بأشكال وألوان
اتبع الاحتلال سياسة ممنهجة بشكل تدريجي، للتضييق على اهالي البلدة، ومطارديها وعائلاتهم، فكل أسلوب يبوء بالفشل كان يولد أسلوباً جديداً، وتعددت حلقات سلسلة الأساليب فما إن ينتهي حظر تجول حتى يتبعه اخر، وتخلل هذه الأساليب عمليات اقتحامات يومية، واغلاق متكرر للمدخل الغربي بالسواتر الترابية والبوابات الحديدية، واعتبار البلدة ومحيطها منطقة عسكرية مغلقة عشرات المرات، إضافة لأوامر الاحتلال بالتحقيق الميداني عبر جمع كافة أبناء البلدة ممن تزيد أعمارهم عن 13 عاماً في احدى الساحات وغالباً ساحة الدوار الغربي.
في خضم هذه المجريات، وعمليات التضييق والملاحقة المستمرة، وبعد سنين من المطاردة القاسية في أكناف البلدة القديمة، كان لابد من موعد لرحلة الوداع، وحلت ليلة وداع الفرسان لبلدتهم، ولم تكن تلك الليلة كأي ليلة!
ليلة الوداع
كما لكل بداية نهاية، هكذا كان الفرسان، فمن ديراستيا كانت بداية بزوغ فجر الأسطورة، والآن عليهم شد الرحال، عليهم أن يودعوا كل ذكرياتهم، وأن يلملموا كل قطع سلاحهم، وليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على مسقط رأسهم، فلم يعد لهم في بلدتهم وأمهم الحنونة أي مكان، فقد ضاقت ديراستيا عليهم بما رحبت.
إنها ليلة الثلاثاء الحمراء 6-11-2001م، الفرسان يحرصون على وداع أعز أصدقائهم وعائلاتهم بإيماءات تلميحية للوداع ، وبابتسامتهم المعهودة، ثم يسهر الأبطال اخر ليلة بعد صلاة العشاء في وسط الدوار الغربي للبلدة، وينادون على كل من يعرفونه كي يودعونه الوداع التلميحي الأخير، لا أحد يعرف ما يدور في خلد ثلاثتهم، وما من إنسان تنبأ بما سيحدث، حتى أن أحد أصدقاء الشهيد جمال ملوح حدثني بنبرة حزينة عن تلك الليلة، قال لي: لم أكن أعرف أنها الليلة الأخيرة، ولم أعرف أنني لن أراهم مجدداً، ولم أعرف أنهم سيخرجون واقفين وسيعودون محمولين على الأكتاف. ويستطرد مستذكراً تلك الليلة فيقول: لقد ناداني جمال ولكني لم أقترب منهم، فسلمت عليهم من بعيد، فلقد كانت عيون العسس من العملاء مزروعة في كل مكان.
الآن انقضت ساعات منتصف الليل، ولم يعد هناك أحبة لثلاثتهم، إنه صوت أذان الفجر ينطلق من مساجد ديراستيا، وتبدأ صلاة الفجر الأخيرة في كنف البلدة القديمة، الإمام شهيد والمصلون شهداء.
استيقظت ديراستيا صباحاً على غير العادة، لتسمع صوت اطلاق نار متقطع يتردد صداه في قلب البلدة، ثم بعد فينة بدأت صليات متواصلة من أزيز الرصاص تتراشق لأول مرة قرب مفترق مستوطنة "ياكير"، لقد كان اطلاق النار الأول بضع طلقات نارية في الهواء، إنها طلقات وداع الفرسان لبلدتهم، أما أزيز الرصاص المنهمر، فكان هجوم الفرسان على سيارات المستوطنين على المدخل الغربي لبلدتهم ديراستيا في ساعات الصباح الأولى، وبهذا لم يبق لهم مكان فيديراستيا، لقد كانت ليلة الوداع الأخيرة.
ملحمة الوحدة الوطنية
غادر الفرسان في ذات اليوم إلى منطقة نابلس، وهنا أذكر أن الروايات تتضارب في هذا المضمار فمنها ما يفيد بأنهم اضطروا للمغادرة اضطراريا، ومنها ما يقول أن المغادرة والاحداث اللاحقة مخطط لها، حتى أن رواية أخرى تقول بأن بنيامين بن اليعازر كان متواجدا في المنطقة التي يقصدونها وكان انذاك يشغل منصب وزير الدفاع الاسرائيلي.
مع ظهيرة يوم الثلاثاء الحمراء -كما يحلو لأصدقاء الشهداء تسميته- وبتاريخ 6-11-2001م كانت الشمس في كبد السماء، عندما أطل الأبطال ممتشقين للسلاح من بين كروم الزيتون، على مقربة من موقع عسكري اسرائيلي كبير قرب قرية تِل جنوب نابلس.
بدأ الاشتباك المسلح بكل قوة في الساعة الواحدة ظهراً تقريباً، عندما أطل طيف جيب عسكري، حيث هاجم الشهداء الثلاثة ذلك الجيب عندما كان يمر قرب الموقع العسكري، واستمرت المعركة مع جنود الموقعأكثر من 4 ساعات متواصلة دون توقف، ثم وصلت التعزيزات العسكرية الى منطقة المعركة، تساندها طائرة مروحية، وزاد هلع الجنود في الموقع العسكري، مع تلقيهم خبر مقتل الضابط المسوؤل عن منطقة نابلس الجنوبية (منطقة بورين وما حولها)، والذي كان برتبة رائد واصابة ثلاثة جنود اخرين حسب اعتراف المصادر الاسرائيلية.
ولم ينجح الاحتلال في السيطرة على المقاتلين الاشاوس، طوال 4 ساعات متواصلة، الا بعد نفاذ ذخيرتهم بالكامل، وإصابة ثلاثتهم بجراح، ولم يستسلم أي منهم قطعاً، ليمنع الاحتلال بعد ذلك طواقم الاسعاف الفلسطيني من اسعافهم،ليكونوا ضحية الاجرام عبر اعدامهم بدم بارد حيث أطلق الجنود عليهم الرصاص من مسافة الصفر وبكل وحشية بعد تركهم ينزفون حتى فارقوا الحياة عندما علموا ان الضابط المسؤول قد قتل.
يذكر أن المصادر الاسرائيلية اعترفت بأن الاشتباك المسلح أسفر عن مقتل ضابط برتبة رائد واصابة 3 جنود آخرين، في حين أن شهود العيان أكدوا بأن هناك أكثر من جثة كانت ملقاة على الأرض غير جثامين الشهداء الثلاثة.
ديراستيا تستقبل النبأ
مع ساعات غروب الثلاثاء 6-11-2001 صدحت مآذن ديراستيا بالتكبير، معلنة النبأ، نبأ ترجل فرسان الوحدة الوطنية، لتخرج ديراستيا عن بكرة أبيها في ذلك المساء الحزين مذهولة، وغير مصدقة للنبأ، وليبكي القريب والبعيد، وسط مشاعر من الصدمة والمفاجأة، المآذن كانت تنعى الشهداء بنداء الوحدة الوطنية الذي عاشوا عليه ورحلوا عليه وامتزجت دمائهم في الميدان لصياغته.
أصدقاء الشهداء كانوا مذهولين مما حدث، ويقول لي أحد أصدقاء الشهيد جمال ملوح، بأنه سمع نبأ استشهاده من أحد كبار السن في البلدة ولم يصدق النبأ، ثم تأكد من ذلك فيما بعد.
البوستر الواحد..والقبر الواحد
لم يجمع ثلاثتهم سلاح واحد أو درب واحد فحسب، بل إن البوستر التأبيني جمع ثلاثتهم، حتى أن قبراً واحداً ضم أجسادهم الثلاثة، ليبقى قبرهم الواحد مدرسة أسطورية منهاجها الوحدة الوطنية وتنهل منه الأجيال بلا معلم، فهم حقاً كانوا روحاً واحدة في ثلاثة أجساد.
على كرسيّ الشهادة يكون المجد و إلا فلا .. هكذا تسطر حكاية الفلسطينيين الأوائل تاريخا تصون فيه أرضاً, و تقاتل فيه عن شرف الأمة و هيبتها، فهنا في ديراستيا المعروفة بإنبات الشهداء العظام حكاية قديمة جديدة يرويها كل عاشقٍ عنحكاية الحب و الرحيل بين الأرض و السماء، هي حكاية أسطورية للوحدة الوطنية، خطها أبطالها الأسطوريون بدمائهم الزكية على ثرى الأرض المقدسة.
الجزء الأول