قد تغدو أسطورة "فرسان الثلاثاء الحمراء" اليوم أسطورة خرافية لن تتكرر، ربما هي كالعنقاء، أو طائر الفينيق، ولكن حكاية هذا الاصدار ليست من نسج الخيال، بل هي أسطورة حقيقية لم يصغ كاتبها سطورها، بل إن الدماء الزكية الطاهرة هي التي صاغت أبجديات الحكاية، وإن رجال الأسطورة عزفوا أرقى سيمفونية في العزة والإباء والوحدة والفداء، وقدموا أنفسهم قرابين على مذبح الحرية.
هناك في بلدة ديراستيا يبزغ فجر الحكاية، هي بلدة ريفية تتبع محافظة سلفيت، وتبعد مسافة 23 كم عن مدينة نابلس وسط الضفة الغربية، ويبلغ تعداد سكانها حالياً ما يقارب خمسة آلاف نسمة، وتقضي آلاف أخرى من أبنائها حياتها خارج الوطن، وتمتاز بوجود البلدة القديمة فيها كمعلم تراثي حضاري أصيل، إضافة لمنطقة "وادي قانا" والتي اعتبرها الاحتلال محمية طبيعية اسرائيلية منذ بداية الثمانينيات.
ديراستيا وانتفاضة الأقصى
مع انطلاقة شرارة الانتفاضة الثانية والمعروفة باسم "انتفاضة الاقصى" عام 2000، هبّ أبناء بلدة ديراستيا شأنهم شأن كافة ابناء شعبنا الفلسطيني الصامد للتصدي للاحتلال ومواجهته في نقاط التماس والاحتكاك على أطراف البلدة، حيث كانت المسيرات الغاضبة تخرج على مدخل البلدة الغربي، المحاذي لشارع المستوطنات ( مفترق مستوطنة ياكير)، وكانت قوات الاحتلال المحمولة والراجلة تنتظر الشبان، لتبدأ المواجهات الشعبية منذ الصباح الباكر حتى ساعات غروب الشمس. شن الاحتلال الكثير من الحملات الاعتقالية لقمع الانتفاضة الفلسطينية في البلدة طالت عشرات الشبان، ولكن الانتفاضة لم تتوقف بل كانت في بدايتها.
وكان من بين شبان المقاومة الشعبية في ديراستيا ثلاثة فرسان من البلدة لا نبالغ في إطلاق لقب"أسطورة الوحدة الوطنية" عليهم، وهم أبطال الملحمة ومحور حديثنا، إنهم: الشهيد البطل : جمال حسن خضر ملوح ابن حركة فتح والشهيد البطل: اياد عودة محمد الخطيب ابن حركة حماس، والشهيد البطل : علي ابراهيم كامل ابو حجلة ابن حزب الشعب الفلسطيني.
وقبل الخوض في سيرة الشهداء وحكاية أسطورتهم البطولية، لابد من التعريف بهم كل على حدة من خلال نبذة مقتضبة لحياة كل منهم، منذ الميلاد وحتى ما قبل انتفاضة الأقصى.
الاسم : جمال حسن خضر ملوح
اسم الشهرة : أبو ملوح
ولد شهيدنا البطل جمال عام 1974 لأسرة تتصف بطابع الكرم والجود ويغلب عليها صفة البداوة، ثم انتقل شهيدنا وعائلته الى السكن في بلدة ديراستيا، وتحديداً في منطقة" وادي قانا" لينشأ جمال شبلاً يافعاً ترعرع هناك، وقد تميز بخفة حركته وسرعتها بسبب مكان نشأتهفي وادي قانا وطرقه وجباله الوعرة. وتميز بخفة الظل واقباله على الناس وتقبلهم له وتقبله لهم حيث كانمبتسما دائما حتى في اصعب الظروف .
انخرط جمال منذ نعومة أظفاره في صفوف حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" ، وبرز إسم جمال ملوح أو "أبو ملوح" -كما يحلو لرفاقه تسميته- في الانتفاضة الاولى عام 1987م حيث شارك بفاعلية في كافة فعالياتها من عمليات رشق الحجارة والزجاجات الحارقة وكذلك كان لشهيدنا باع طويل في عمليات " حساب العملاء والجواسيس" ، كل هذه الأمور حولته لقائد شعبي بارز وبطل تعشقه الجماهير في البلدة، الأمر الذي لم يرق لاسرائيل ومخابراتها ما أدى لاعتقاله عدداً من المرات خلال الانتفاضة الاولى فقط.
[caption id="attachment_24914" align="aligncenter" width="322"] الشهيد ملوح[/caption]كانت تربطه علاقة قوية مع كل أبناء التنظيمات والفصائل الفلسطينية، حيث كان في ميادين رشق الحجارة وفي عمليات شن الهجمات بالزجاجات الحارقة جنباً الى جنب مع اخوانه في حماس وفي حزب الشعب وفي كافة التنظيمات، ولعل من أبرز الاسباب التي ولدت هذه العلاقة الحميمة بينه وبين شبان البلدة على مختلف مشاربهم هو نشاطه الرياضي الفاعل في كرة القدم فلقد كان شهيدنا رياضياً معروفاً على مستوى منطقة سلفيت، وكان كابتن ومؤسس فريق الشبيبة الفتحاوية في البلدة، ويعتبر من أوائل رواد العمل الرياضي، وكان يجيد لعبة التايكوندو ببراعة فائقة، وتستهويه هواية الصيد ببندقية "الخرطوش".
مضى جمال متنقلاً من حملة اعتقال لأخرى، ومن سجن لآخر، حتى جاءت آخر عملية اعتقال له، قضى فيها مدة 3 سنوات من محكوميته لدى الاحتلال، حتى افرج عنه في التسعينيات مع قدوم السلطة الوطنية إلى الأراضي الفلسطينية ليتولى جمال بعدها عضوية فتح في اقليم سلفيت وليكون أحد أبرز الناشطين المتميزين من جديد.
تلك كانت حكاية جمال حتى ما قبل اندلاع شرارة انتفاضة الاقصى، أما شهيدنا إياد الخطيب فله حكاية أخرى منذ ميلاده حتى ما قبل الانتفاضة.
الاسم : اياد عودة محمد الخطيب
اسم الشهرة : أبو مصعب
وُلِد إياد عام 1973 م ، ونشأ في بلدته ديراستيا وامتاز بعلاقته الحميمة مع كافة ابناء بلدته، وأنهى تعليمه الاساسي والثانوي في مدارس البلدة. ويذكر أنه حاول في فترة مطاردته نيل شهادة الثانوية العامة التي حرمه منها الاحتلال بعد اعتقاله، إلا أن اشتداد مطاردته واخوانه في تلك الفترة منعته من الحصول عليها.
يعتبر الشهيد مؤسس حركة حماس في بلدة ديراستيا، وامتاز بدوره الفاعل في انتفاضة الحجارة الأولى مع كافة أبناء الفصائل الفلسطينية شأنه شأن جمال، ومن باب الاختصار لن نخوض في تكرار ما سبق.
بروزه كرمز جماهيري لم يرق للاحتلال الذي اعتقله عدداً من المرات، بتهم مختلفة من بينها تهمة تشكيل خلية عسكرية مسلحة، وأفرج عنه في نهاية التسعينيات حيث كان اخر اعتقال له، ليتزوج عام 1999م ، وينضم للعمل في بلدية ديراستيا كفني لصيانة شبكتي المياه والكهرباء.
[caption id="attachment_24915" align="aligncenter" width="232"] الشهيد إياد الخطيب - أبو مصعب[/caption]يعرف الشهيد بأنه "لوجستي عياش والعاصي" حيث آوى الشهيد المهندس المعروف يحيى عياش في بلدة ديراستيا، وأمن له كافة احتياجاته في منتصف التسعينيات، إضافة لاتصالاته مع المطاردين من رفاق عياش وأبرزهم الشهيد علي عاصي من قرية قراوة بني حسان المجاورة.
الاسم : علي ابراهيم كامل ابو حجلة
ولد علي في البلدة القديمة ببلدته ديراستيا عام 1980م ، ودرس في مدراسها الى الصف التاسع ثم خرج من المدرسة ليساعد اسرته خصوصا بعد استشهاد شقيقه الشهيد نهاد بطل الزجاجات الحارقة وشهيد الانتفاضة الاولى في ديراستيا حيث استشهد نهاد شقيق علي عام 1993 م اثر كمين نصبته وحدة قناصة اسرائيلية خاصة على الشارع الرابط بين مستوطنتي(رفافا-ياكير)، وأصابه القناصة بجراح بينما كان مع أحد رفاقه يهم بالقاء زجاجات حارقة (مولوتوف) تجاه سيارات المستوطنين، ليستشهد بعد فترة متأثراً بجراحه.
[caption id="attachment_24916" align="aligncenter" width="223"] الشهيد علي أبو حجلة[/caption]عندما استشهد نهاد كان علي حينها صغير السن لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره الا ان استشهاد اخيهاثر فيه كثيرا، ثم انخرط علي في صفوف حزب الشعب الفلسطيني وكان من نشطائه البارزين، ليلتحق بعد ذلك في سلك الشرطة الفلسطينية لمدة عام تقريباً حيث استقال وترك العمل بسبب سفره للخارج، ولم يطل غياب علي كثيراً فعاد من الخارج لمزاولةنشاطاته الاجتماعية والتطوعية لخدمة أبناء بلدته من خلال حزب الشعب ونشاطه في اتحاد الشباب الفلسطيني.
لم يكن علي معاصراً لانتفاضة الحجارة الأولى نظراً لحداثة سنه، لكنه شارك بفعالية في عمليات رشق الحجارة والزجاجات الحارقة في الانتفاضة الثانية منذ أول أيام انطلاقها حيث تشهد له ولاخوانه ميادين منطقة الدوار الغربي ومحيط البلدة القديمة، وأبى علي الا ان ينتقللاحقاً من بطل الحجارة الى جنرال الكلاشنكوف، ليواصل طريقه وليوفي بعهده.
رغم أن علي لم يعتقل لدى الاحتلال ولم يذق مرارة الاعتقال مثل رفاقه الشهيدين جمال وإياد الا انه ذاق مرارة فراق اخيه شهيداً برصاص الاحتلال وربطته علاقة حميمة مع الشهيدين جمال ملوح ابن فتح والشهيد اياد الخطيب ابن حماس.
من الاعتقال الى المطاردة
مع اشتداد وطيس أحداث انتفاضة الأقصى المباركة، وبعد تنفيذ الاحتلال لسلسلة من المجازر في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، ومع تزايد الاحصائية اليومية للشهداء الفلسطينيين، كان لا بد من قرار يلائم طبيعة المرحلة. هذا القرار لم يولد فجأة ولوحده، بل أفرزته حملة المداهمات العنيفة لمنازل كل من الشهيدين جمال ملوح وإياد الخطيب، ليصبح جمال ملوح مطلوباً لقوات الاحتلال الاسرائيلي، ويلتحق بركب المطاردين جنبا لجنب مع رفيقه إياد الخطيب.
هنا قاد جمال ملوح خلايا حركة فتح المسلحة، وأصبح إياد الخطيب قائدا ميدانيا لكتائب القسام، لينضم لهما عدد من الجنود المجهولين من بينهم الشهيد علي ابو حجلة، الذي خرج برفقتهما في رحلة المطاردة الطويلة. رغم عدم وجود جناح عسكري مسلح لحزب الشعب الفلسطيني، الذي عرف بنشاطاته الاجتماعية واقتصاره على المقاومة الشعبية، إلا أن الأمر كان مختلفاً تماماً هنا في بلدة ديراستيا، فالشهيد علي منذ سنين طويلة لم ينس طلقات الغدر الاحتلالية وهي تمزق جسد شقيقه نهاد.
يمكن أن لا يكون هناك قرار رسمي بتشكيل خلية الوحدة الوطنية المسلحة، ولكن طبيعة المرحلة كانت تفرض على الجميع إسماً واحداً تسعى للتضحية من أجله كافة المسميات، ذلك الاسم كان "فلسطين" ، فانطلق جمال ملوح الفتحاوي، برفقة إياد الخطيب الحمساوي ومعهما علي ابو حجلة ابن حزب الشعب، لتبدأ أشرس عمليات الملاحقة الاسرائيلية التي لم تكد تتوقف يوماً منذ أول أيام المطاردة، فجنود الاحتلال يقتحمون منزلي جمال وإياد بشكل دوري بحثاً عنهم ومطالبين بتسليمهم أنفسهم، وينكلون بعائلاتهم، وجرافات الاحتلال تقتلع أشجار الزيتون من أراضي عائلة الشهيد إياد.
البلدة القديمة.. معقل المطاردين
مع فرض الاحتلال لقوته وتبجحه بجبروته، واحكامه لقبضته على بلدة ديراستيا، كان لابد من ملجأ للفرسان الثلاثة، فمعسكر مستوطنة "ياكير" لا يبعد سوى مسافة أمتار عن مدخل البلدة، وفي غضون دقائق يمكن لأي جيب اسرائيلي أن يصل قلب بلدة ديراستيا، هنا وجدت ثلاثية الوحدة الوطنية ضالتها في البلدة القديمة.
وسط مركز بلدة ديراستيا، وفي محيط الدوار الغربي، تتربع البلدة القديمة على مساحة ما يقارب 51 دونماً، ولها أربع مداخل، وتعج بالأزقة الضيقة، والبيوت المتلاصقة، والأماكن المهجورة، والدهاليز المظلمة، ولم يدخلها الاحتلال منذ فترة بعيدة.
[caption id="attachment_24925" align="aligncenter" width="422"] زقاق قديم وضيق في البلدة القديمة لدير استيا[/caption]تلك الأزقة والمضافات والسراديب التي احتضنت قادة الاضراب الشهير عام 1936م، واحتضنت بين جنباتها أشبال الحجارة في الانتفاضة، كان لابد لها أن تحتضن رفاق السلاح والمطاردة، ففيها حط الفرسان الثلاثة رحالهم.
فرسان ثلاثة، افترشوا الأرض والتحفوا السماء، عبر رحلة المطاردة الطويلة، لتزداد حملات الملاحقة شراسة وقوة، فكان جيش خفافيش الظلام من العملاء والجواسيس ليلاً ونهاراً يرقب كل حركة وكل خطوة من شأنها أن توصل الى طرف خيط، يقود الى الفرسان الثلاثة، ولكن عبثاً كل المحاولات كانت تبوء بالفشل، وفي كل ليلة بعد أي تقهقر لجيش الاحتلال وانسحابه، كان يخرج ثلاثتهم مبتسمين في شوارع البلدة، ويتبادلون السلام مع كل من يلتقيهم في الطرقات.
ولعل البلدة القديمة وطبيعتها العمرانية، كان لها الدور الأمثل في حمايتهم، فهي تمتاز بضيق أزقتها، وأسطح منازلها المترابطة، وطرقها ومخابئها ودهاليزها الكثيرة.
يتبع