شبكة قدس الإخبارية

عندما يصبح الناشطونَ الشباب آباءً وأمهات

فاطمة عاصلة

عندما تصبح أمًا-تلك التي تتوسط الشارع صارخة- سوفَ لن يهاب ابنها من أن يُعتقل إنْ حضر ،سيرتفع سقف تضحياته الى خلف المتوقع في الساحةِ. عندما يُصبح أبًا- هذا الذي يتعلمُ النهوضَ من تحت أقدام الخيل الشرسّة- سوف يعاتب ابنته التي تأخرت في الطريق إلى رفع الشعارات، كمّا كان يعاتبه جدّه على تأخره في العودة الى البيتِ بعد التحقيق.

 عندما تصبح أمًا-تلك التي صرخت فحاولوا إسكاتها عبثًا- سوف لنّ يكون لها ابنةٌ في البيت تخشى الخروج احتسابًا لأن "صوت المرأة عورة" ولأنها لا تستطيع الدفاع عن تهجّم شرطيّ ذكر، كما قال والدّاها.

ليسَ اندفاع الشباب بتضحيات غير محدودة- أو رُبما حدّها الموت- جنونًا أو لاعقلانيّة بالضرورة، وليس هو "اندفاع الشباب" كما يسمونّه الآباء والجيل الذي تعدّى عمر الشباب قاصدين مفهومًا سلبيًا أو إن أردنا النظر بصورة أعمق، فهم يظنون أن هذه مرحلة عبور يعبرّها كل شاب أو شابة قبل "نضوجه" التام.

لكن هل هو كذلك؟ هل هو يشبه ذات الاندفاع الذي مروّا به وسيُخمد كحالة تطور انسانيّ أو بشريّ طبيعيّة؟ أمْ هو مختلف تمامًا ويخضع لمعاييّر أخرى، الان تحديدًا في هذا الوقت الذي أثبت قدرة الشباب على النهضة وعلى زيادة نيران الثورة كلمّا امتدّ الوقت وليس إطفائها؟

هذا الاندفاع ليس هو ذات "الاندفاع الشبابيّ" الذي لا بدّ منه في كل جيل وسرعان ما يخمّد، إنّه اندفاعُ مرتب عقلانيّ وهو ولادةٌ لحالة الوعي والثقافة والتصميم التي تراكمت عبرّ السنين، وسلخ واقع الانهزام الذي التصق فينا من عقود ستّة. وغيرها من أسباب كثيرة وأكثر عمقًا وإفاضة في التحليل.

انّها المقاومة بشكلها المجرّد والنقي والخالي من أي عيوب وشوائب، وليست المقاومة المحدودة التي ألبسناها أثوابًا وحدودًا وقوالبًا، إن الجيل الاسبق قد وضعوا-حتى بهذه العبارة "اندفاع الشباب" -حدّاً لتضحياتنا وحددوّا سقف نضالنا وعيًا، ويتعاملون مع كل حدثٍ بفرضيّة الاندفاع الشبابيّ العبثيّ وغير الحكيم.

وليست المقاومة أو النضال عبثيّة أو فوضويّة بل مُحنكّة. اذ أن الفعل مقدّر ومن المفترض أن يكون محسوبًا وذكيًا ومتعاملًا مع تطورات الارض والساحة، وهنا يكمّن الامتحان لكونه عقلانيًا أم لا. أما ردّ الفعل فهو الغير مقدّر دائما، خصوصًا عند التعامل مع كيّان إرهابي يخرق القوانين الدوليّة والانسانيّة بلا احتساب، قد يكون ردّ الفعل أقصى من المتوقع وقد يكون أدنى منه، وهذا المتوقع من يُحددّه؟ من يحددّه غير الفاعل الذكيّ الذي يجب أن يذهب أقصى من المتوقع، حدّ اللاحدّ ، وهُنا المقاومة أو النضال الحقيقي، الغير مشروط والغير مُكبّل.

أما هُم- من هم منّا وفينا وقبلنا- فيقيسونَ الفعل بردّ الفعل فيتحددّ سقف الفعل وسقف التوّقع حتى نلائم تحركاتنا ونضالنا وفقّه فتُضرَب مقاومتنا ويُضرب نضالنا بالأرض بكثير من الأحيان.

عندما يصبح هؤلاء الشباب أجدادًا، سوف لن يخرج الشباب إلى الشارع، بل ستخرج العائلة إلى الشارع، سوف يثور الشعب، كامل الشعب وستغلي البلد.

سوف لن يكون هناك شيخ أو كهل أو رجل في الخمسين يدفع الثورة الى الخلف، كي يتعقّل الشباب "ويعدّوا للعشرة".

سوف تختفي الجدّة التي ترّن كلماتها بأٌذنِ أحفادها قبل خروجهم قائلة: "يمّا خلص مشاكل، البلاد راحت والعرب نايمين، إرحّم امك الي قلبها عليك" وستتترك مكانها بعد عمرٍ من الأرق لجدٍة أخرى-من اللواتي اعتقلنّ- فتحادث حفيدها عن نضالٍ هو امتداده قائلة:" وبعد ما عملنا حملة على الفيسبوك...."

سوف لن يكون هناك من يحني الظهر أو يكسّره كلمّا فكر الشاب الى ما ستؤول اليه المظاهرة من نتائج، ويفكّر بالذي سيحدث إن أصيب أو اعتقل، ويفكّر بالحديث المنتظر بعد ذلك والذي فيه يثبت والده نظريته عن موازين القوى واللاجدوى ومستقبله المهنيّ والدراسيّ.

 عندما يصبحون آباءً، هؤلاء المتبسمين عند الاشارة الضوئية كسيّل نار، كم من النقاشات الحادّة مع الاهل ستنتهي قُبيل الخروج لكل مظاهرة؟

كم من الترسبّات الحسية والفكريّة التي ترافقنا من بيت الأهل أو هاتفهم إلى المظاهرة وتترك أثرها خلالها فينا ستنتهي؟ كم تخفض هذه الترسبات سقف استعدادنا؟ لا أدري، لكنّني أعلم يقينًا أنها موجودة وتترك بالتأكيد أثرها النفسيّ، عدا عن فعلها القاطع في حالات أخرى مانعةً عددًا هائلا من الخروج الى النضال، لا ندري حجم طاقاته بعد.

عندما نصبح اباءً وأمهات سوف لا يعني هذا الخلاص، أو أن جميعنا سنغدو مناضلين. لا، فسيبقى من ورثَ وسيورّث الانهزام، وسيبقى من يقبع في دوامات الماضي والانتكاس، وسيبقى من لا يرى تغيّر الواقع ولا يرى بالأفق عهدًا جديدًا .

لكننا عندما نصبح آباءً وأمهاتً سوف يحدث الكثير، سيتغيّر مشهد ساحات النضال، ستترك المعركة لونها الأوحد، سيتغيّر المشهد من رؤية الشباب الناشطين هم من يقودون التحركات الحقيقية من جهة، ومحاربتهم لصفًا آخرًا منهم يعيدهم الى الخلف من جهة أخرى، الى رؤية العائلة والاطفال والشيوخ والشبيبة والرجال والنساء بأعمارهم المختلفة هم من يقودون الأمام. سوفَ يدفع الخمسينيّ الصف نحو الامام، الى جانب الأنثى التي تبلغ العشرين.

عندما يصبح هؤلاء الناشطين آباءً وأمهاتً، سوف لن يكون هناك ناشطين بل سيكون شعبًا ناشطًاً بعماله ومثقفيه وبطلابه وأساتذته.