حسين بن حمزة
كتاب «الحياة في بيوت فلسطين (1855ـــ 1859)» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) هو حصيلة رحلات دوّنتها ماري إليزا روجرز أثناء مرافقتها لشقيقها إدوارد توماس روجرز الذي شغل مناصب ديبلوماسية وقنصلية في القدس ودمشق والقاهرة وحيفا التي يبدأ منها تدوين هذه الرحلات، ويشمل لاحقاً مناطق أخرى في فلسطين. نُشر الكتاب سنة 1862 وانتظر كل هذه السنوات لينقل إلى العربية في ترجمة سلسة ودقيقة أنجزها جمال أبو غيداء، مع مقدمة ثرية للباحثة مي صيقلي.
الكتاب الذي بدأ بتسجيل مشاهدات شخصية أولية على خلفية رومانسية ودينية تحوّل، مع استمرار الإقامة والتعرف إلى أنماط الحياة والتقاليد السائدة في ذلك الوقت، إلى مرجع تاريخي وسوسيولوجي دقيق يمكن الاعتماد عليه في مناقشة مسائل وقضايا ساسية ستطرأ لاحقاً، وستنتهي باغتصاب أرض فلسطين، وإقامة دولة "إسرائيل". لا تتوقف المؤلفة عن عقد المقارنات بين ما تراه وما تحفظه من التوراة والأناجيل. يترافق ذلك مع ما نعرفه من تصاعد اهتمام بريطانيا وفرنسا بسوريا الطبيعية التي كانت فلسطين جزءاً منها.
تكشف المؤلفة عن مهارة عالية في تسجيل أشكال العمارة والسكن في مدن مثل حيفا ونابلس والناصرة وبيت لحم، وأنماط حياة الفلاحين والبدو في القرى، وتوثّق أنواع الطعام وطرق إعدادها، وطقوس الأعراس، والأزياء، والأغاني، وعلاقات الطوائف والأديان. ولكن هذه المادة الغنية غالباً ما تصطدم بالروايات التوراتية، وإن كان ذلك يخلو من مقاصد سياسية واضحة.
المشكلة أن الخلفية الدينية للمؤلفة تستدعي التصورات البدائية لفكرة «شعب الله المختار» و«أرض الميعاد»، بل إن ذلك يقود المؤلفة إلى خلاصات خطيرة وغير صائبة، كما حين تفسّر انتحار أحد اليهود بخوفه من المسيحيين المشرقيين، فهؤلاء في نظرها لا يمثلون المسيحية الحقيقية ما داموا يُخيفون هذا اليهودي الشرقي. خلاصاتٌ مثل هذه تتعزز أكثر مع جرعات وإشارات من المعرفة الاستشراقية التي تتسرب إلى كنز المعلومات التي يقدمها الكتاب، وتجبر القارئ على الاستمتاع بتلك المعلومات التي ترسم صورة مدهشة وعميقة عن فلسطين، وعلى تلقّي استنتاجات شخصية توقظه من استغراقه، وتُعيده إلى واقع أن ضياع فلسطين بدأ بأدبيات اجتماعية وسياسية مماثلة، وهو ما نبّه إليه المترجم حول «الإسقاطات والمقاربات التوراتية والتلمودية على فلسطين ومناطقها وأهلها»، مع ضرورة الحفاظ على أمانة النقل والترجمة.
رغم ذلك، يُظهر الكتاب مدى رسوخ المجتمع الفلسطيني، ومدى مساهمة تعدديته الدينية في إغناء الحياة الاجتماعية وأشكال المعيشة للسكان، ومدى تصالح هؤلاء مع بيئاتهم الريفية والمدينية، وبدايات انكشاف هذا العالم المحلي على أنماط الحياة والأفكار الغربية التي بدأت طلائعها في ذلك الوقت.
في هذا السياق، ركزت المؤلفة على حياة النساء المحكومة بقواعد وعادات قاسية، ولكنها لم تمنع بعض المدينيات من محاكاة النمط الغربي في السلوك الاجتماعي والأزياء والتبرّج. مكانة المؤلفة كشقيقة لديبلوماسي غربي جعل رحلاتها ميسّرة أكثر، وكذلك انغماسها في مجتمعات المدن التي أقامت فيها أو زارتها، إضافة إلى تعلمها للغة العربية وقدرتها على استيعاب اللهجة العامية.