منذ عاد المفكر محمد عبده من أوروباً قائلاً من أثر الذهول إنّه قد رأى إسلاماً ولم ير مسلمين، و تصوّرنا للإسلام بدأ يفقد مركزيّة النصّ وغائيّة الواقع، إلى أن يتحوّل شيئاً فشيئاً لتصوّر دائريّ يتمحور حول الغرب المتخيّل المثال.
على أنّنا حتى نكون دقيقين فلم يكن محمد عبده أوّل من نحا هذا المنحى، فقد كان لصدمة الحضارة أثرُها السابق على محمد عبده والذي تجلّى في عموم فكر النهضة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بين من دعا للخروج من واقع التأخّر -دون اختزال أيّ مشروع أو مفكّر بذلك- إلى اقتباس التنظيمات (خير الدين التونسي، ابن أبي الضياف، عبدالرحمن الكواكبي)، أو تقليد الصناعات (رفاعة الطهطاوي، الشيخ محمود قبادو التونسي)، أو تكثير المعلومات (علي مبارك)، وصولاً مع سيرورة المنطق نفسه مع غير الإسلاميّين إلى تحويل اللغات(سلامة موسى، طه حسين).
على أنّنا ينبغي أن نقول إنّ التمحور حول الغرب المثال كمنطقٍ كامن لا يحضر بنسبةٍ واحدة ولا بوضوحٍ وقصديّة واحدة كذلك، و أنّنا قطعاً نبتعد في التوصيف عن اتهامات الوجه الآخر للتمحور حول الغرب، و أعني التمحور بالسلب في شكله السلفي، لهذه المشاريع وأصحابها هروباً من المناقشة أو عجزاً عنها بأنّها محض غزوٍ فكريّ أو عمالة للماسونيّة (كما كان الشيخ البوطي يتهم عبده والأفغاني)، ولا يمكن إنكار الطاقة التجديديّة الكبيرة لهذه المشاريع و ما حملته من محاولة مواءمة صعبةٍ بين شكل القوّة المتمثّل بحداثة الغرب و أصل الرؤية المتمثّل بالدين لأجل التقدّم بواقع المسلمين المهزوم، وأنّ كشف منطقٍ ما كامن في مشروع فكريّ لا يعني تجريمه ولا عزله عن سياقاته ولا تعريته عن الإثراء والإضافة، وهذه بداهاتٌ في أيّ نقد فكريّ تُفتقد في عصر التوك شو والمعلومة السريعة وثقافة الإثارة، التي يُكتب هذا المقال للكلام عنها.
واعتاد الإسلاميّون فيما بعد صدمة الحداثة ومع مراحل الأفكار الكبرى المختلفة، أن يعيدوا إنتاج الإسلام مع كلّ ايديولوجيا مسيطرة لتظهر ثاويةً فيه ومتضمّنة في قيمه، ولا تعدم آليّاتُ التأويل المتسعة وإمكانيات القراءة والاقتباس والتقديم والتأخير اللا محدودة طريقها لإظهار عنصرٍ كامن من أيّ فكرة في تراث الإسلام الضخم.
بدأنا نقرأ مع انهيار الدولة العثمانيّة مثلاً عن جذور القوميّة في الإسلام ثمّ عن مشروعيّة الدولة الوطنيّة، ولاحقاً كتب العقاد كتابه "الديمقراطيّة في الإسلام" ليؤكّد على أنّ أصل الديمقراطية هو في الإسلام وأنّ الغرب اقتبسها منّا فهي بضاعتنا ردّت إلينا، و كتب الشيخ مصطفى السباعي كتابه "اشتراكيّة الإسلام"، ثمّ بدأ مشروع "اليسار الإسلامي" مع حسن حنفي، إن لم نرد التعرّض لمدرسة "إسلام اللاعنف" مع جودت سعيد، و بدأ – بشكلٍ عالمي أوسع من محدودية النطاق العربي- المفكّر الباكستاني فضل الرحمن بصياغة "الإسلام الليبرالي"، التي سيحاول الكثيرون فيما بعد تقليدها والبناء عليها.
كما أنّ محاولات المواجهة مع هاجس الغرب الذي ازداد حضوره مع انتقال التنوير العربي مع عبدالله العروي إلى الجيل الثالث "الليبرالية الإصلاحية"، واعتماده المركّز والمنهجي على وسائل العلوم الإنسانية دفع الإسلاميين إلى التعامل مع هذه العلوم باعتبارها "آخر" مبهماً يجب اكتشافه واجتلابه فبدأ مشروع المعهد العالمي للفكر الإسلامي الساعي لأسلمة العلوم الإنسانية، مستكملاً مسيرة الأسلمة التي ابتدأت بالديمقراطيّة ولم تنته بما بعد الحداثة، و إن لم يكن يمكن وصف الكتابات والدراسات التي أنتجها والتي تضمّ الكثير من الإضافات المهمّة، أنّها بذات مستوى التبسيط المخلّ للشعار والخطّة الأوّليّة له.
ولا يمكن وعي سيرورة الملاحقة للغرب هذه كظاهرةٍ فكريّة بحتة، فقد نشأت وتغذّت انطلاقاً من وعي المغلوب الذي شعر به المسلمون عموماً أمام الغرب الغالب، ومن المظلوميّة التاريخيّة للإسلاميّين خصوصاً في مواجهة السلطة العربيّة التي حاصرتهم باتهامات الرجعيّة والانغلاق والإرهاب قبل قيود المعتقلات، فسعى الإسلاميّون للتحرّر من تهم الفكر كوسيلةٍ – في اللاوعي ربما – للتحرّر من ظُلَم الأسر والتضييق والتهميش، ماكينة التهم والشيطنة المسعورة التي حاصرتهم بها بروباغندا استبداد الشرق مع امبرياليّة الغرب، ما عزّز من شعور المتّهم المحتاج لتبرئة نفسه انطلاقاً من "وعي مهزوم".
وفي العقود الأخيرة، ظهر مع تجارب التحديث الاقتصادي على النمط الليبرالي في ماليزيا وتركيّا خاصّة، موجةٌ عارمةٌ من الاحتفال بنجاح الإسلاميّين "الحضاري"، فيما يمكن أن ندعوه بـ "إسلام التنمية"، ولكنها تنمية على النمط الليبراليّ حصراً، وما طغى في موضوع الاقتصاد طغى كذلك في النظريّات السياسيّة الإسلاميّة المحدثة (مثلاً: محمد المختار الشنقيطي، لؤي صافي، هبة رؤوف عزت) التي أنجزت مشاريع بمقدّمات مركّبة ومشغولة بهاجس الاستبداد و الانغلاق الإسلامي الحقيقيّ و بدراسات لا تخلو من عمق و تفانٍ للفقه السياسي الإسلامي، ولكنّها انتهت في الغالب إلى أسلمة ظاهريّة للنموذج السياسي الليبرالي الغربي، و نعني بأسلمة ظاهريّة، أنّها عملت على "أسلمة الدوالّ" مع التسليم بالمدلولات كما هي.
أنتج عقد الصورة الأخير ظاهرة الدعاة الجدد، لم تكن ظاهرةً دعويّة بمظهر الدعوة القديم في المساجد والمدارس، وإنّما كانت دعوة نشأت وتضخّمت عبر وسائل الإعلام الحديثة، المتمثّلة بالفضائيّات بدايةً، و الفضائيّات الأغنى غالباً والممتلكة لرؤوس المال الكبرى، ولئن كان من البدهيّ أن يفرض الإعلام الحديث منطقه على الصورة و المظهر، فإنّ من البدهيّ المسكوت عنه أنّه يفرض منطقه على المادّة المقدّمة خلاله كذلك، فتصبح معايير الكلام هي معايير السوق، و تصبح نسبة المشاهدة هي المرجعيّة المخوّلة بإضفاء القيمة على المادة الفكريّة، لا جودتها ولا عمقها، ولأجل ذلك تروج الآراء السهلة والقابلة للتعميم و التحشيد، بما يلزم ذلك من تبسيط وتنميط واختزاليّة واعتماد على العواطف الأولى غير المركّبة، و من تسليم بمنطق السوق و شروط الرأسمال ، و استبطان منطقه ، في سيرورة متكاملة شرحها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه المميّز عن التلفزيون .
و لعلّ الذي كان كامناً في منطق الدعوة الأوّل عبر الفضائيّات، أضحى ظاهراً حين انتقلت الظاهرة لمرحلتها الثانية وبدأت تكوّن مشاريعها، المشاريع التي كان هدفها إعداد مديرين ناجحين، باعتبار المؤمن القويّ خيراً من المؤمن الضعيف ، تجري إعادة التأويل للإسلام هنا، لتكون الحداثة المادية بمظهرها الغربي هي المقصد، محلّ إثبات التديّن، مع نزعةٍ أمريكيّة تتمثّل بالتركيز على الإدارة، والاقتصاديّ المبادر، والتنمية البشريّة.
إنّها ظاهرةٌ تدور ضمن فلك الغربِ المثال، و تستبطن منطق الرأسمال الذي تقدّم نفسها بأدواته وسلطته، وبأدوات الدعوة التي يُعاد تأويل غائيّاتها.
وانسجاماً مع تحويل رمضان إلى مناسبة استهلاكيّة عامّة، تصنعها شركات الإعلان ورؤوس المال، ليكون التبدّل الأساس لا في نمط التديّن و العبادة ، و إنّما في نمط الاستهلاك ، الذي يشمل الاستهلاك المباشر للسلع (التي تتناسب مع إسلاميّة الشهر طبعاً، من كان يظنّ بالمناسبة أنّ مصر ستستورد فوانيس رمضانيّة من الصين ؟!) والاستهلاك غير المباشر المتمثّل بمشاهدة برامج التلفزيون والمسلسلات التي تجهّز طيلة العام لشهر الصيام حصراً من قبل نخبةٍ منفصلةٍ أصلاً عن “إسلاميّة” هويّة الجمهور في كلّ شيء، إلّا في الاتفاق على الاهتمام المشترك بسوق الفنّ في رمضان، أنتجت قنوات الإسلام الليبراليّ الحديثة موسمها الموازي أيضاً، الذي – ككلّ ما أنتجته- يقدّم بضاعة السوق ذاتها بمنطقها الحديث المتغربن ذاته لكن بمظهرٍ إسلاميّ لا شكّ فيه، حتى يمكن للمسلم الفرار من أغاني روتانا العارية إلى أناشيد “روتانا المحجّبة” ، فكانت مواسم برامج الدعاة الجدد ضمن هذا السياق العامّ، دون اعتبار استغلال إمكانية المشاهدة العالية جريمةً ، و لا اعتبار أنّ من الخطأ تقديم ما نراه صواباً ضمن حالة من الخطأ العامّ، هذا ضروريّ و ليس ممكناً و حسب، و ليست المؤاخذة هنا على استغلال شهر رمضان في تقديم برامج دعويّة إيمانيّة، فهذا تنطّع مبالغٌ به، و إنّما في في تقديم نسخةٍ أخرى مؤسلمة الظاهر من منطق الاستهلاك نفسه، و الرضوخ لشروط الآخر بدلاً من تقديم بديلٍ مستقلّ عنه.
وحتى لا يكون الكلام في المبهم، فلعلّ أهمّ أسماء ثلاثة ضمن تصنيف الدعاة الجدد هم: الدكتور طارق السويدان، وعمرو خالد، وأحمد الشقيري مقدّم برنامج خواطر، و لعلّه ليس من المفارقة أنّ الثلاثة قدّموا بأشكال مختلفة مسابقاتٍ إداريّة ضمن برامج اكتسبت جمهورها من هالتها الدعويّة.
وربما يكون التعليق على الدكتور طارق السويدان، منحصراً ببرنامج إعداد القادة و تركيزه على مهارات الإدارة و القيادة، القيادة بشروط الشركات الحديثة، لأنّه سبق ذلك بحياة طويلة من التثقيف الواعي و الجادّ، مقارنةً بجوّ الدعوة السائد.
يقدّم عمرو خالد هذا الرمضان سلسلةً عن تاريخ الأندلس، بعدما استُنفدت قصص الرسول – عليه السلام – و الصحابة و الخلفاء التي حظيت بجمهور غير مسبوق وكانت حدثاً لا يمكن إنكار أثره، و بعدما أخذت مشاريع صناع الحياة ومسابقات المشاريع الإداريّة الناجحة مداها الأقصى، و بعد برنامج إذاعيّ عن قصص الأمل الذي ثارت ضجّة حوله حيث كانت إحدى القصص عن طفلٍ ورث ثلاثة فنادق عن أبيه ونجح في بناء الفندق الرابع، إنّه أمل رأسماليّ محض، يقدّم كأمل إسلاميّ مدعم بالأحاديث و العبرات والموسيقى المؤثّرة.
إنّها أندلس بعين عمرو خالد، العين العصريّة الباحثة عن حلول لمشاكل ما بعد الـ 2011 خاصّة، مشاكل الفتنة التي اعتزلها عمرو خالد داعياً إلى الحكمة و نبذ الفرقة و التعايش، دون أن ينفي هذا الاعتزال نيّة تأسيس حزبٍ سياسيّ يضمّ رموزاً من النظام السابق لتكتمل لوحة التعايش، إنّها أندلس التعايش بامتياز، ولكنّه التعايش المرغوب المأمول، لا التعايش القائم في التاريخ، و هي ستكون أندلس المنجز الحضاريّ بامتياز، و لكنّه المنجز الحضاريّ بشروط الحضاريّ الغربيّ لا بشروط تايخها و مجتمعها، و هي أندلس الوحدة الوطنيّة، وأندلس الخلافات الطائفيّة، وأندلس الفنون، وأندلس الفلاسفة، وأندلس المخترعات الطبيّة، والأماكن السياحية التي تعجب الأوروبيين، و كلّ ذلك يقدّم بشروط العين العصريّة وصياغتها لتكون الأندلس ستارةً لواقعٍ يريد عمرو خالد علاجه و نقده و تقديم قدوةٍ له، أمّا أندلس التاريخ فمتروكةٌ لعينٍ أخرى في التاريخ، لا في همّ عمرو خالد الرمضانيّ التلفزيونيّ الحديث.
ولئن لم يكن التاريخ حكراً على المؤرّخ و مكن للداعية والأديب أن يقتبس منه و تكلّم عنه و فيه، فإنّ سرد التاريخ و تفاصيله يجب أن يكون بمرجعيّة المؤرّخ و منطق التأريخ مع إمكانيّة تبديل الأدوات حسب غائيّة السرد و نوع السارد، أمّا الحديث عن التاريخ بأدوات الداعية ومنطق السوق ومرجعيّة النظر المهزوم في المُشكل الحاضر، فهذا سيقدّم حتماً تاريخاً مشوّهاً منتزعاً من سياقه وواقعه، قد يصلح للترويج السريع باعتباره عرضاً مسلّياً في النهاية، لكن على حساب التاريخ والمستقبل الذي يُرجى منه معاً.
يتبع..