خاص - شبكة قُدس: لم تكن التصدعات التي برزت في الجمهور الإسرائيلي خلال عامي الحرب على قطاع غزة والمواجهة المباشرة مع إيران مفاجئة، بل كانت تجسيدًا لحقيقة حاولت "إسرائيل" إخفاءها طويلًا خلف صورة القوة والانضباط. فمن يتابع المشهد الداخلي يدرك أن هذا الجمهور، بكل مستوياته، يحمل في داخله هشاشة عميقة تتجلى عند أول اختبار حقيقي. وبينما تتباهى المؤسسة الأمنية لدى الاحتلال بقدراتها و"تماسكها"، كانت الوقائع تكشف شيئًا مختلفًا تمامًا: جنود يبيعون السلاح، سجّانون يهربون الهواتف، مستوطنون يتجسسون لصالح إيران، وأزمات اجتماعية وسياسية تتسع يومًا بعد يوم. وكل ما يحدث لا يعتبر ظواهر معزولة، بل هو مشهد متكامل لانهيار تدريجي في منظومة تدّعي أنها الأكثر صلابة في المنطقة.
سلاح للبيع
منذ بدايات العمل المسلح للفصائل الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كانت مشكلة نقص السلاح والذخيرة أحد أهم أسباب تأخره وفعاليته، وقد سد هذا النقص من معسكرات الاحتلال نفسه حيث أن غالبية السلاح والذخيرة كانت تباع من قبل الجنود لتصل إلى إيدي الثوار والمقاومين، وما زالت هذه الظاهرة حتى اليوم فقد اعترف جيش الاحتلال عدة مرات أن معظم السلاح والذخيرة التي كانت تصل إلى المقاومين في مخيمات شمال الضفة سرقت من معسكرات جيش الاحتلال وباعها الجنود، حتى أن بعض الجنود باعوا أسلحتهم الشخصية متجاهلين ما يسمى "الشرف" العسكري والانتماء المزعوم.
السجون قبل السابع من أكتوبر
كما باع الجنود السلاح والذخيرة من معسكراتهم؛ فقد استطاع الأسرى الفلسطينيون ترويض سجانيهم وإغرائهم بالمال مقابل تهريب الهواتف النقالة وكثير من الاحتياجات الممنوعة عن الأسرى، حتى أن كبار الضباط من مصلحة سجون الاحتلال تورطوا في مثل هذه القضايا.
المال الإيراني
أسقط المال الإيراني هالة الأمن الإسرائيلي، ومع بداية طوفان الأقصى واشتراك عدد من الساحات في المواجهة سواء حزب الله أو أنصار الله وصولا إلى المواجهة المباشرة مع إيران، اكتشفت المنظومة الأمنية الإسرائيلية أنها تعاني خرقا خطيرا في الساحة الداخلية، هذا الاختراق ظهرت نتائجه سريعا بسبب تسارع الأحداث وضرب أحد أهم مواضع القوة الإسرائيلية، فقد تكشفت عشرات قضايا التجسس لصالح إيران أبطالها مستوطنون إسرائيليون من كل الفئات استهدفوا المواقع العسكرية والصناعية والصحية والعلماء والوزراء، حتى وصل الأمر إلى مفاعل ديمونا، ومقر وزارة الحرب، وبحسب اعترافات العملاء الذين تم اعتقالهم فقد كانت معهم مخططات لتنفيذ عمليات من بينها عمليات اغتيال.
جواسيس إيران ليسوا على الهامش
عملت المخابرات الإيرانية بكل جهدها لتجنيد أكبر عدد ممكن من العملاء في كل النواحي ومن كل الفئات، ولم تجد صعوبة كبيرة في ذلك والدليل العدد الكبير من الشبكات والعملاء الذين تم كشفهم في فترة قصيرة نسبيا، الحرب السياسية والقضائية والدينية التي تضرب الجمهور الإسرائيلي من الداخل، وكذلك التبعات الاقتصادية المدمرة على "المواطن" العادي سهلت من تجنيد هذا العدد وكذلك عدم الشعور بالانتماء لهذه الدولة التي لا تهتم بمواطنيها.
لم تستطع الجهات الأمنية إخفاء صدمتها من هذا العدد والمراحل المتقدمة التي وصل إليها بعض العملاء، حتى أن أحد هؤلاء العملاء يبلغ من العمر 13 عاما، يقول الصحفي يواف ليمور: "في جهاز الشاباك والشرطة يحاولون جاهدين فهم ما الذي دفع هذا العدد الكبير من الإسرائيليين للتجسس والتعامل مع إيران، كان التصور الأول أنهم مواطنون من الهامش الاجتماعي: بالأساس مهاجرون جدد، ممن ليست لديهم عائلات هنا ولم يخدموا في الجيش، ولذلك فإن ارتباطهم بإسرائيل أضعف. لكن مع تزايد الحالات تبيّن أن الأمر ليس كذلك، إذ إن إيران جنّدت كل من وقع في متناول يدها، كبارًا وصغارًا، فقراء وأغنياء، من الأطراف ومن المركز، متدينين وعلمانيين، قدامى وجدد، شرقيين وغربيين، عشرات الإسرائيليين الذين عملوا لصالحها مقابل المال".
الأزمة تتزايد
باتت المظاهرات الأسبوعية لرافضي الخدمة في جيش الاحتلال من الحريديم تأخذ شكلا صداميا أكثر فأكثر، حتى أن موضوع فرض التجنيد على الحريديم بات أحد أهم الأسباب التي قد تؤدي إلى حل الائتلاف الحكومي والكنيست الإسرائيلي. إلى جانب ذلك هناك أصوات كثيرة تهاجم ما يعرفوا بفتية التلال وأصحاب فكرة الاستيطان الرعوي الذين يهاجمون القرى الفلسطينية ويستولون على مساحات كبيرة من الأراضي، يقول البروفيسور مناحيم لازار من جامعة بار إيلان، الذي يتابع تحركات الرأي العام الديني في البلاد: "حتى قبل الانتخابات الأخيرة، قلتُ إن شباب التلال يُستغلون كما تستغل كوريا الشمالية الأسلحة النووية للردع. هنا أيضاً، الموقف هو: "لا تعبثوا بنا، وإلا سنطلق سراح كلاب الدوبرمان". لم تجد المؤسسة الفاسدة بعدُ الشجاعة للتعامل معهم بجدية، إذا ما أضافت إلى كل إدانة عبارة "نعم، ولكن علينا أن نتفهم".
أما الحاخام يعقوب ميدان فيبين حقيقة فتية التلال: "ليس لديهم أي سلطة، لا حاخامية ولا تربوية، فهم لا يستمعون لقيادة يهودا والسامرة، ويُنظر إلى سموتريتش أيضاً على أنه خائن في نظرهم، لأنه وزير في وزارة الحرب ومسؤول عن الاستيطان، ومع ذلك سمح بإخلاء المواقع. لا أحد يستطيع السيطرة عليهم".
"إسرائيل" تقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي؛ حيث لم تعد التهديدات الخارجية هي الهاجس الأوحد، بل أصبحت التصدعات الداخلية هي "العدو الكامن" الأكثر خطورة. إن بيع الولاءات وتفشي الفساد في مفاصل الدولة الحساسة يعكس أزمة هوية وانعدام ثقة في المشروع الصهيوني نفسه. ومع استمرار هذه المعطيات، يبقى السؤال الكبير لا يتعلق بمدى قدرة المنظومة الأمنية على الصمود أمام إيران أو الفصائل، بل في مدى قدرة هذا الجمهور الإسرائيلي على الصمود أمام نفسه قبل أن تتحول هذه الشقوق إلى انهيار شامل يعيد رسم خارطة المنطقة.
"في المحصلة، يتبين أن التحدي الحقيقي الذي يواجه "إسرائيل" اليوم، ليس في ترسانتها العسكرية أو تحالفاتها الدولية، بل في تآكل الجبهة الداخلية وفقدان المناعة المجتمعية. إن هذه التحولات، من اختراقات أمنية وفساد بنيوي، تشير إلى أن "قلعة القوة" المزعومة باتت تعاني من وهن في أساساتها. وإذا استمر هذا النزيف في الانتماء والنزاهة، فإن الانهيار القادم قد لا يحتاج إلى جيوش جرارة، بل قد يكون نتاج تداعيات ذاتية من الداخل، يضع الكيان أمام حقيقة تاريخية مفادها أن البقاء لا يستقيم مع مجتمع تنهشه الصراعات وتغيب عنه الرؤية الواحدة."



