شبكة قدس الإخبارية

حين تصبح الحرب ضرورة داخلية: قراءة في منطق نتنياهو السياسي

نتنياهو
رامي أبو زبيدة

لا يكتب الجنرالات والصحافيون الإسرائيليون اليوم عن الحرب بوصفها فعلاً أمنياً وعسكرياً صرفاً، بل باعتبارها بنية سياسية كاملة تُدار من مكتب رئيس الوزراء (نتنياهو) . في هذا السياق، يقدّم مقال اللواء (احتياط) إسرائيل زيف المنشور على موقع N12، ومقال ران أدليست في معاريف، نصّين متكاملين لا متناقضين: الأول يشرح من داخل المؤسسة الأمنية كيف تآكلت الإنجازات وفشلت الأهداف الاستراتيجية، والثاني يفضح من زاوية سياسية-شخصية كيف يخشى بنيامين نتنياهو لحظة الصدق مع واشنطن، ويستخدم الحرب كدرع انتخابي وملاذ من المساءلة.
يكتب إسرائيل زيف بوضوح نادر في المقال المعنون: «نتنياهو مصمم على عدم إنهاء الحرب لأسباب داخلية: سيكون الثمن باهظاً»، واضعاً فرضية مركزية: الحرب لم تعد وسيلة لتحقيق أهداف، بل تحوّلت إلى غاية بحد ذاتها. يقول زيف في فقرة مفصلية:

«على الرغم من انتهاء الحرب في لبنان وسورية قبل عام، وفي غزة قبل نحو ثلاثة أشهر، فإن الحكومة الإسرائيلية لم تناقش أو تتخذ أي قرار رسمي بشأن إنهاء الحرب، ناهيك عن أنها لم تعترف حتى بشكل كامل بانتهاء الحرب… لا تُبدي حكومة نتنياهو أي اهتمام بالاعتراف بنهاية الحرب، بل على العكس، فهي ترغب سياسياً في العودة إلى الحرب بأسرع وقت ممكن».

هذا الإصرار على إبقاء الحرب “معلّقة” هو، وفق زيف، سياسة داخلية مقصودة، تُدار عبر تضخيم التهديدات في لبنان وإيران، رغم أن الوقائع الميدانية لا تبرر ذلك. يكتب ويقول: «لم يتعافَ حزب الله تماماً من آثار الحرب، والضرر الجسيم الذي لحق بأكثر من 70 في المئة من قدراته لا يزال بعيداً عن استعادة قدرته الهجومية… يعاني من انقطاع خطوط إمداد أسلحته، وعجز مالي كبير، ورفض شعبي في مناطق عدة للتعاون معه».

بمعنى آخر، التهديد قائم في الخطاب أكثر منه في الواقع، والتهويل يخدم أجندة سياسية لا حاجة أمنية. هنا يلتقي زيف مع ران أدليست، الذي يذهب أبعد في توصيف البعد الشخصي-النفسي لنتنياهو. في مقاله «قمة ترامب – نتنياهو: سيناريو الرعب الذي يخشاه بيبي»، يرى أدليست أن نتنياهو لا يخشى الحرب بقدر ما يخشى نهايتها، لأنها تعني العودة إلى السياسة الطبيعية، أي إلى المحاسبة. يقول أدليست:

«لن تكون أي حرب على غزة، أو على لبنان، أو على سورية، أو على إيران. ستكون هناك صورة في حفلات البلاط البيزنطي في مار-آلاغو، حيث سيتلقى بيبي توبيخاً وتحذيراً من مغبة عرقلته المرحلة الثانية… من الواضح أن لحظات صدق ترامب هي لحظات رعب نتنياهو».

في هذا التوصيف، تصبح واشنطن عامل تهديد لنتنياهو، لا ضمانة له. فبينما يراهن رئيس الوزراء الإسرائيلي على خلق أجواء حرب للضغط على الأميركيين، كما يشرح زيف، يرى أدليست أن هذه الورقة باتت مكشوفة. يكتب زيف:

«في حال التهديد بمهاجمة إيران، يسعى نتنياهو إلى استعادة “الهدية” السابقة التي قدمها لترامب… وفي لبنان يريد مقابل تخفيف طفيف للضغوط إحراز تقدم في غزة، أي التخلي عن دخول لبنان مقابل خفض مطالبه بالانتقال إلى المرحلة الثانية».

لكن أدليست ينسف هذا الرهان، معتبراً أن إدارة ترامب – رغم فوضويتها – لا ترى في إسرائيل سوى عبء في صراعها العالمي الأكبر. يقول بحدة: «السياسة الأميركية تقول: نحن في صراع عالمي على مناطق سيطرة حيال الصين وشركائها… وإسرائيل في الشرق الأوسط شوكة في القفى».

هذا التناقض بين ما يريده نتنياهو وما تريده واشنطن هو لبّ الأزمة. فبينما يستخدم نتنياهو الحرب لإدارة الداخل الإسرائيلي بالخوف، كما يشير زيف: «رغبة رئيس الوزراء في الاستمرار في إبقاء جو الحرب كضرورة داخلية… انطلاقاً من افتراض أن الخوف والتوتر يخدمان مصالحه القانونية، وسلطته، وصورته في عام الانتخابات»، تسعى واشنطن إلى تهدئة الجبهات لضمان مصالحها الإقليمية والاقتصادية.

الأخطر في تحليل زيف ليس فقط فشل الأهداف، بل حقيقة أن الجميع ربح من الحرب باستثناء إسرائيل. يقول في مقطع لافت: «باستثناء عودة الرهائن الحاسمة، تآكلت جميع إنجازات الحرب من جذورها، ولم يتحقق أي إنجاز إستراتيجي… استفاد الأميركيون، والأتراك، والقطريون، والسعوديون، والمصريون… جميعهم يستمتعون أيضاً بعزلة إسرائيل وتراجع مكانتها».

هذه الخلاصة تلتقي مع توصيف أدليست لـ«صاحب السيادة الأزعر»، أي الدولة التي تخرق الاتفاقات متى شاءت وتطلق النار لتأكيد حضورها، لا لتحقيق أمن. يكتب أدليست في مقاله : «نحن صاحب السيادة الأزعر. ذاك الذي يخرق حين يروق له، ويطلق أصوات ضحية مزعومة، ويطلق النار على كل من يتحرك مثلما يفعل عسكري خائف».

في هذا السياق، لا تبدو العمليات العسكرية في سورية أو لبنان، كما يشرح أدليست عبر مثال عملية المظليين الفاشلة، سوى نتاج عقيدة “الاحتكاك الدائم”، التي تُبقي النزاع مشتعلاً عند مستوى الاستنزاف، وتمنع الانتقال إلى تسويات سياسية.

وهذا ما يحذّر منه زيف صراحة حين يقول: «سياسة الهجمات غير المنضبطة… تُسهم في تقويض اتفاقيات وقف إطلاق النار الهشة، وتعيد إسرائيل إلى سياسة فاشلة كانت سبباً في الكوارث السابقة».

الخيط الناظم بين المقالين هو أن نتنياهو لا يدير حرباً، بل يدير زمناً سياسياً مؤجلاً. كل جبهة مفتوحة، وكل تهديد معلّق، هو وسيلة لتأجيل السؤال الجوهري: ماذا بعد الحرب؟ ومَن يتحمل مسؤولية الفشل؟ لذلك، كما يختم زيف، فإن الثمن ليس أمنياً فقط، بل وجودي على مستوى الدولة: «إن مسار الضرر الذي تُسببه حكومة أصبح التدمير سلاحها للبقاء… لا يُؤدي إلا إلى تفاقم وضع إسرائيل. يجب بذل كل جهد لتقديم موعد الانتخابات».
أما أدليست، فيقدّم الجواب بسخرية قاتمة: الحرب مستمرة لأن السلام أخطر على نتنياهو من أي عدو خارجي. وبين تحليل الجنرال ونقد الصحافي، تتضح الصورة: إسرائيل اليوم ليست أسيرة تهديدات أعدائها بقدر ما هي أسيرة سياسة داخلية حوّلت الحرب إلى أداة حكم، والخوف إلى برنامج سياسي.