شبكة قدس الإخبارية

من الحسم إلى المنع: تحوّل العقيدة الأمنية الإسرائيلية تجاه إيران

2025-06-16T034715Z-1497642280-RC2F3FAG1XBV-RTRMADP-3-IRAN-NUCLEAR-ISRAEL
رامي أبو زبيدة

تشير كثافة المقالات والتحليلات الصادرة في الإعلام الإسرائيلي خلال الأسابيع الأخيرة إلى عودة إيران لتتصدّر سلّم التهديدات، ليس بوصفها احتمالًا نظريًا بعيدًا، بل كخصم مركزي لم تُحسم المواجهة معه بعد. فالحرب التي اندلعت في حزيران/يونيو 2025، والتي يصفها الإسرائيليون بـ«حرب الأيام الاثني عشر»، لم تُنهِ الصراع مع طهران بقدر ما أعادت تشكيله، ونقلت الطرفين من مرحلة الضربة والرد إلى مرحلة أكثر تعقيدًا تقوم على سباق الترميم، وإعادة بناء القدرات، ومحاولة تثبيت معادلات ردع جديدة في بيئة إقليمية شديدة السيولة.

من القراءة العسكرية البحتة، يمكن القول إن الضربات الإسرائيلية–الأميركية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية والبنية الصاروخية حققت نجاحًا عملياتيًا ملموسًا، لكنها لم تصل إلى مستوى الحسم الاستراتيجي. فحتى داخل التقديرات الإسرائيلية نفسها، لا يوجد إجماع على حجم الضرر الذي لحق بالمشروع النووي، ولا على المدة الزمنية التي أُعيد فيها إلى الوراء. بين الخطاب السياسي الأميركي الذي يبالغ في إعلان «تدمير المشروع»، وبين التقديرات العسكرية الإسرائيلية الأكثر حذرًا، تتشكل صورة وسطية مفادها أن إيران تضررت لكنها لم تُشل، وأن قدرتها على التعافي بقيت قائمة، بل وسريعة نسبيًا قياسًا بحجم الضربة.

الأهم من ذلك أن الحرب كشفت لإسرائيل حجم التهديد الذي تمثله الصواريخ الباليستية الإيرانية، حتى بأعداد أقل مما كانت تطمح إليه طهران قبل الحرب. فإطلاق نحو 450 صاروخًا فقط كان كافيًا لإحداث ضغط غير مسبوق على منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والأميركية، وكشف هشاشة الجبهة الداخلية أمام ضربات مركزة، الأمر الذي جعل الصواريخ، لا النووي، تتقدم إلى واجهة القلق الأمني الإسرائيلي. فالصاروخ ليس مجرد أداة هجومية، بل هو الغلاف الذي يحمي المشروع النووي، والوسيلة التي ترفع كلفة أي ضربة مستقبلية إلى مستوى قد لا تحتمله إسرائيل وحدها.

تشير تقديرات إسرائيلية متعددة إلى أن إيران خرجت من الحرب وهي ما تزال تمتلك نحو 1500 صاروخ بعيد المدى، حتى قبل استئناف الإنتاج. هذا الرقم، في الحسابات العسكرية، يعني أن طهران تحتفظ بقدرة ردع فعلية، وأن أي جولة قتال جديدة ستبدأ من مستوى أعلى من الشدة، لا من الصفر. ومن هنا تتشكل معادلة جديدة: ليست المسألة هل ستعيد إيران بناء قدراتها، بل كم من الوقت تحتاج لتفعل ذلك، ومن سيتمكن من استثمار الزمن لصالحه.

في هذا السياق، يتضح أن إيران انتقلت سريعًا من مرحلة الصدمة إلى مرحلة التعلم. فالضربات التي تلقتها لم تدفعها إلى التراجع عن مشروعها الاستراتيجي، بل إلى إعادة تنظيمه. التركيز الحالي، كما تعكسه المقالات الإسرائيلية، ليس على اندفاع علني نحو السلاح النووي، بل على ترميم منظومات الإنتاج الصاروخي، وتوسيعها، وتحسين دقتها، وإعادة بناء الدفاع الجوي، ونقل مزيد من القدرات تحت الأرض، وتقليص نقاط الاختناق التي استهدفتها إسرائيل في الحرب الأخيرة. هذا التحول يعكس تغييرًا في العقيدة أكثر مما هو مجرد إصلاح للأضرار، ويشير إلى استعداد لجولة مقبلة أكثر تعقيدًا وأعلى كلفة.

في المقابل، تعيش إسرائيل تحوّلًا في مفهومها الأمني منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تجلّى في تبنّي ما يُعرف بمبدأ «المنع»، أي منع تشكّل التهديد قبل أن يكتمل، وعدم الاكتفاء بسياسة الاحتواء أو الرد بعد الفعل. هذا المبدأ طُبق بوضوح في غزة ولبنان، حيث منحت إسرائيل نفسها حرية عمل شبه مطلقة لضرب أي محاولة لإعادة البناء العسكري. غير أن تطبيق هذا المفهوم ضد دولة بحجم إيران يطرح إشكاليات كبرى، تتعلق بالمسافة الجغرافية، وبكلفة العمليات، وبالتشابك الدولي، وبالاعتماد شبه الكامل على الموقف الأميركي.

وهنا تظهر المعضلة الاستراتيجية الإسرائيلية بوضوح. فمن جهة، ترى تل أبيب أن السماح لإيران باستكمال ترميم قدراتها الصاروخية والدفاعية يعني إغلاق نافذة الفرص أمام أي عمل عسكري فعال في المستقبل. ومن جهة أخرى، تدرك أن خوض مواجهة واسعة مع إيران دون شراكة أميركية مباشرة يحمل مخاطر لا يمكن التحكم بها. هذا التناقض يفسر كثافة الحديث عن لقاء نتنياهو–ترامب، ليس بوصفه لقاءً سياسيًا عاديًا، بل كنقطة حسم محتملة لمسار التصعيد أو كبحه.

القراءة الإسرائيلية للموقف الأميركي تشير إلى فجوة واضحة في الرؤية، لا في تشخيص الخطر. واشنطن ترى إيران تهديدًا، لكنها لا تريد حربًا جديدة في الشرق الأوسط، خاصة في ظل مساعي الإدارة الأميركية لإعادة ترتيب الإقليم، وإنهاء ملفات غزة ولبنان وسوريا بأقل قدر من الانخراط العسكري المباشر. ترامب، وفق هذه القراءة، يفضل مزيجًا من الضغط والعقوبات والردع غير المباشر، مع إبقاء الخيار العسكري في الخلفية، لا في الواجهة. أما إسرائيل، فتنطلق من منطق وجودي أكثر حدة، يعتبر أن تأجيل المواجهة اليوم قد يفرض حربًا أشد خطورة غدًا.

هذا التباين يخلق حالة توتر كامنة، ليس فقط بين إسرائيل وإيران، بل أيضًا داخل منظومة اتخاذ القرار الغربية نفسها. وهو ما يفتح الباب أمام سيناريو بالغ الخطورة: التصعيد غير المقصود. فحسب تحذيرات ضباط إسرائيليين كبار، فإن الخطاب السياسي والإعلامي المتصاعد حول إيران قد يُفسَّر في طهران كتمهيد لضربة وشيكة، ما يدفعها إلى التفكير بخيار الهجوم الاستباقي، لا بدافع الرغبة في الحرب، بل خوفًا من المفاجأة. في بيئة مشبعة بالشك، وسجل طويل من الضربات السرية والعلنية، قد يكون سوء التقدير وحده كافيًا لإشعال مواجهة لا يريدها أي من الطرفين في هذه اللحظة.

من منظور عسكري استراتيجي، لا يمكن القول إن المنطقة تقف على حافة حرب وشيكة بالمعنى التقليدي، لكن المؤكد أننا أمام حالة «هدوء مسلح» هش، تتراكم فيه عوامل الانفجار. لا إيران مستعدة للتنازل عن مشروعها، ولا إسرائيل مستعدة لقبول عودة طهران إلى وضع تكون فيه محمية بمظلة صاروخية ودفاعية متكاملة. وفي سباق الزمن هذا، تصبح كل خطوة، وكل تصريح، وكل تدريب عسكري، جزءًا من معركة نفسية واستراتيجية أوسع.

الخلاصة أن الحرب بين إسرائيل وإيران لم تنتهِ في حزيران 2025، بل دخلت مرحلة جديدة أقل صخبًا وأكثر تعقيدًا. مرحلة لا تقوم على الضربات المباشرة فقط، بل على إدارة الوقت، وبناء القدرات، واختبار حدود الردع. والسؤال الحقيقي الذي يفرض نفسه اليوم ليس ما إذا كانت هناك جولة قادمة من الحرب، بل متى ستندلع، وبأي شكل، وهل ستكون نتيجة قرار محسوب، أم ثمرة سوء فهم وانزلاق تدريجي لا يستطيع أحد إيقافه عند نقطة معينة.