اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاثنين (15 كانون الأول/ ديسمبر 2025)، قرارا جديدا يؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بتصويت 164 دولة، في حين صوتت 8 دول ضده وهي، "إسرائيل" والولايات المتحدة وميكرونيزيا والأرجنتين وباراغواي وباباوا غينيا الجديدة وبالاو وناورو.. لا يحمل القرار جديدا من حيث الجوهر، ولا يُفترض به ذلك، فهو حلقة إضافية في سلسلة طويلة من قرارات مشابهة، صدرت عن المؤسسة نفسها، وباللغة نفسها تقريبا، ومن الموقع القانوني نفسه؛ موقع الاعتراف بلا إلزام. الجمعية العامة لا تملك أدوات تنفيذ، وقراراتها، مهما اتسعت أغلبيتها، تظل تعبيرا عن اتجاه أخلاقي عام داخل النظام الدولي، لا قوة قادرة على تغيير ميزان الواقع. ولهذا تتراكم القرارات في الأرشيف، بينما يتراكم على الأرض الدمار والمقابر، وخرائط تُعاد صياغتها بعد كل حرب.
غير أن رمزية القرارات لا تُفسّر المأزق، بل تكشف طبقته السطحية فقط. فالأمر يصير أكثر وضوحا حين الانتقال من المؤسسة التي تُنتج لغة الاعتراف، إلى المؤسسة التي تملك أدوات الإلزام. ففي 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، تبنّى مجلس الأمن القرار رقم 2803 المتعلق بغزة، وهو قرار صيغ على أساس الخطة الأمريكية لإدارة ما بعد الحرب. هنا يتغير معنى السياسة، ويتبدل تعريف الحق نفسه. فالقرار لا يتعامل مع تقرير المصير بوصفه حقا ثابتا وغير قابل للتصرف، بل بوصفه مسارا محتملا، مشروطا بإجراءات تُطلب من الفلسطينيين، وترتيبات تُفرض عليهم، ومعايير "استقرار" تُصاغ خارج تجربتهم وإرادتهم.
في هذا الموضع بالذات، يعمل المنطق الدولي كما اعتاد أن يعمل تاريخيا، أي حين تعجز القوة عن إنكار الحق علنا، فإنها تعيد تأطيره، فلا تقول: لا حق لكم، ولكنها تقول: حقكم موجود، لكن ليس الآن، وليس بهذه الصورة، وليس بلا شروط. يتحول الحق، والحالة هذه، من قاعدة إلى نتيجة، ومن مبدأ إلى مكافأة محتملة غير مؤكدة مسبوقة بعمليات سحق مادي ومعنوي لصاحب الحق بالقوّة المنفلتة وبشروط الابتزاز التي لا تتوقف، الخلل هنا ليس مشكلة في الصياغة، ولكنه انقلاب في معنى تقرير المصير نفسه.
تقرير المصير، في أصله، يعني سيادة شعب على معناه؛ على أرضه، وذاكرته، وخياراته، وتعريفه لذاته. أما في القرار 2803، فيتحول تقرير المصير إلى برنامج تأهيل سياسي وأخلاقي. الشعب الفلسطيني لا يُنظر إليه بوصفه ذاتا سياسية، بل بوصفه موضوعا للإدارة. يُطلب منه أن يُعاد تشكيل وعيه، وأن تُنقّى ذاكرته، وأن تُعدّل مناهجه، وأن تُقطع صلته الرمزية والمادية بأسرى وشهداء قُتلوا في سياق مقاومة احتلال معترف بعدم قانونيته. الإصلاح هنا لا يعني تحسين بنية الحكم، بل تفكيك المعنى المقاوم من الداخل، وإعادة إنتاج الفلسطيني بوصفه كيانا منزوع الإرادة، صالحا للإدارة، لا للمواجهة.
ولذلك لم يكن تحذير خبراء الأمم المتحدة المستقلين من القرار مسألة تقنية أو رأيا هامشيا، ولكنه تشخيص دقيق لطبيعة الانتهاك، ففي البيان الرسمي الذي صدر على موقع مكتب المفوّض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، حذّرت فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من أن قرار مجلس الأمن المذكور ليس مجرد قرار سياسي "لطلب الاستقرار"، ولكنه ينتهك حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ويخالف ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي لحقوق الإنسان. المفارقة هنا أن المؤسسة المكلفة بحماية الميثاق، تعتمد قرارا يرى فيه خبراؤها خرقا له، لا لأنه فشل في حماية الفلسطينيين فحسب، بل لأنه أعاد تعريف الحق بوصفه منّة قابلة للمنح والمنع.
وفي مقابل هذا الكم من الاشتراط على الفلسطيني، لا يُطلب من إسرائيل شيء يُذكر، لا يُطلب منها تفكيك بنيتها التربوية القائمة على الرواية الصهيونية النافية للفلسطيني وحقه، ولا يُطلب منها مراجعة نظامها العسكري الذي يبدأ بعسكرة المجتمع بنحو متدرج من مناهج التربية، ومعسكرات الشبيبة، وصولا إلى تأطيره بالجيش، وتعبئته كله للحرب. ومع ذلك، لا يظهر في الخطاب الدولي أي حديث عن "إصلاح" إسرائيلي، أو عن شروط أخلاقية تُفرض على المعتدي. الشرط يُفرض دائما على الطرف الأضعف، لأنّ ضعفه يسمح بفرض الشروط، فالضعف ليس سببا للنصرة بل للمزيد من الإضعاف، في حالة أخلاقية بالغة الانحطاط!
هنا يتكشّف السؤال عن معنى الأخلاق في عالم لا يكافئ إلا القوّة؛ ما معنى أن يُطلب من الضحية أن تكون "عاقلة" و"معتدلة" بعد حرب إبادة، ويطلب منها أن تحب من أجرى عليها الإبادة، بينما يُسمح للمعتدي أن يواصل بناء قوته، وتربية أطفاله على نفي الآخر، واستخدام العنف بوصفه لغة طبيعية؟ هذا ليس طلبا أخلاقيا، بل إعادة إنتاج لعلاقة السيد والتابع داخل خطاب ناعم. فالحق الذي لا تُفرض كلفة لانتهاكه، لا يعود حقا، بل يتحول إلى توصيف لغوي.
على الأرض، تتجسد هذه الفلسفة في تفاصيل يومية. في شتاء غزة، تُغرق سيول الأمطار خيام النازحين وتكاد الريح أن تطير بأجساد الأطفال، آلاف العائلات بلا مأوى، في ظرف لا مجال للحديث فيه عن تدفئة الأطفال أصلا، وبنية تحتية مدمّرة بالكامل لا تحتمل فصلا إضافيا من القسوة. هنا لا يعود الشتاء فصلا طبيعيا، وإنما هو امتداد للحرب بوسائل أقل صخبا وأكثر استدامة. وفي غمرة هذا المشهد، تواصل "إسرائيل" سياسة الاغتيالات، فتقتل القائد في كتائب القسام رائد سعد. الواقعة ليست حدثا عسكريا عابرا، وإنما هي إعلان صريح بأن "المسار السياسي" لا يملك أن يقيّد القاتل، صانع الإبادة، وأن الاتفاقات والتفاهمات لا وزن لها في حال قررت "إسرائيل" أمرا.
ولا تتوقف هذه البنية عند غزة، فالعدوان المتواصل على لبنان، والاعتداءات غير المسببة على سوريا، يكشفان عن سلوك إمبراطوري كاشف عن قدرة على استخدام القوة خارج الحدود، من دون مساءلة، ومن دون حاجة إلى تبرير متماسك. هنا يتحول الإقليم كله إلى مساحة استثناء، ويُعاد تعريف القانون الدولي بوصفه أداة انتقائية، لا معيارا عاما.
وفي هذا السياق، يظهر سؤال الوسطاء والضامنين بوصفه سؤالا مفهوميّا لا تقنيا. فما معنى الضمانة حينما لا يكون لهم وزن إزاء منح "إسرائيل" نفسها حقّ التفسير والفعل بلا أيّ كابح ولا مرجعية؟! وما قيمة الوساطة، حينما تفعّل الضمانات فقط إذا تعلق الأمر بالتزامات الفلسطينيين، وتُعلَّق حين تنتهك إسرائيل جوهر التفاهمات؟ تتحول الوساطة هنا من وعد بإنهاء العنف إلى آلية لإدارته، ومن لغة تهدئة إلى غطاء سياسي يسمح باستمرار الانتهاك ضمن سقف "مقبول دوليا".
ثم يطل في قلب هذا كله؛ السؤال العربي/ الإعلامي المزمن، سؤال يكشف عن خلل أعمق: هل هناك خلاف أمريكي/ إسرائيلي؟ هل يغضب ترامب من نتنياهو لأنه ينتهك خطته؟ يُطرح السؤال بإلحاح، ويُقدَّم كأنه مفتاح الفهم. غير أن هذا الإلحاح لا يكشف فضولا سياسيا بقدر ما يكشف عجزا عن التفكير البنيوي، فالتحالف الأمريكي/ الإسرائيلي ليس علاقة تفاهم قابلة للشرخ بمجرد اختلاف تكتيكي، ولكنه بنية استراتيجية تمنح إسرائيل مساحة واسعة للتصرف فيما تسميه مجالها الأمني، بينما تتكفل واشنطن بإدارة النتائج. الخلاف حال حصوله، إنما هو خلاف إدارة، لا خلاف منظومة؛ اعتراض شكلي لا يطال جوهر البنية.
هذا الوهم الإعلامي يعكس ميلا في الوعي العربي إلى تفسير السياسة بوصفها صراع نوايا وأمزجة، لا بوصفها علاقات قوة. البحث الدائم عن "خلاف" يريح الضمير، لأنه يعفي من مواجهة الحقيقة الثقيلة، وهي أن المشكلة ليست في سوء التنسيق بين الحليفين، بل في طبيعة التحالف نفسه، وفي موقع العرب خارجه.
في هذه الأثناء، تُستكمل السخرية على مستوى آخر. بينما يُعاد تعريف تقرير المصير الفلسطيني في أروقة مجلس الأمن، وتُدفن غزة تحت المطر والركام، وتُفتح الجبهات الإقليمية بلا رادع، وينشغل جزء واسع من العالم العربي بكأس العرب. ليست المشكلة في الرياضة، ولكن في كونها الآن علامة على تفكك المجال العام؛ من خصومات تتكشف بلا معنى، وشحن عصبي للمجتمعات والجماهير لأجل لا شيء، وانقسام وجداني حول مباريات عابرة، في وقت يبدو فيه العرب أبعد عن بعضهم من أي وقت مضى، وأقل قدرة على إنتاج موقف جامع حتى في لحظات الإبادة.
في المحصلة، لا نحن أمام فشل قرارات، ولا أمام سوء تقدير دبلوماسي، بل أمام نظام كامل يُعيد إنتاج نفسه؛ حقوق تُقال ولا تُنفذ، وقوة تُمارس ولا تُساءل، وساطة تُدار ولا تُحاسَب، وإعلام يبحث عن أوهام مريحة بدل مواجهة البنية. يتحول تقرير المصير من حق إلى ملف، ومن سيادة إلى شرط، ومن معنى إلى برنامج تأهيل. ويُطلب من الفلسطيني، مرة أخرى، أن يكون الطرف العاقل في عالم لا يكافئ إلا القوة، وأن ينتظر عدالة يُعاد تعريفها كل مرة بما يناسب من يملك السلاح.



