شبكة قدس الإخبارية

اغتيال رائد سعد: من ضربة استخبارية إلى إعادة تعريف قواعد الاشتباك في غزة

photo_٢٠٢٥-١٢-١٤_١٦-٥٧-٤٧
رامي أبو زبيدة

 

شكّل اغتيال القيادي في كتائب القسام رائد سعد حدثًا لافتًا في المشهدين العسكري والسياسي، ليس فقط بسبب مكانته داخل البنية القيادية لـ”حماس”، بل بسبب توقيته ودلالاته الأوسع. وقد عكست التغطية الإسرائيلية لهذا الحدث تباينات لافتة في القراءة والتفسير، كما ظهر في ثلاث مقالات مركزية كتبها كلٌّ من يوآف ليمور، المحلل العسكري في صحيفة إسرائيل اليوم، ود. ميخائيل ميلشتاين، رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز دايان بجامعة تل أبيب، في صحيفة يديعوت أحرونوت، وجاكي خوري، محلل الشؤون الفلسطينية في صحيفة هآرتس.

ورغم انتماء الكتّاب الثلاثة إلى مدارس تحليلية مختلفة، تجمعهم نقطة أساسية: النظر إلى اغتيال رائد سعد باعتباره أكثر من عملية عسكرية تكتيكية، بل خطوة محسوبة تهدف إلى إعادة صياغة قواعد الاشتباك في قطاع غزة، واختبار حدود الرد السياسي، وخصوصًا مع الإدارة الأميركية، في لحظة انتقالية حساسة بين الحرب ومسارات “اليوم التالي”.

أولًا: من هو رائد سعد في العقل العسكري الإسرائيلي؟

يتفق الكُتّاب الثلاثة، رغم اختلاف زواياهم، على توصيف رائد سعد كأحد آخر أعمدة الجناح العسكري التاريخيين في “حماس”. يوآف ليمور يضعه ضمن الدائرة الضيقة التي امتلكت المعرفة الكاملة بخطة “جدار أريحا”، هذه الوثيقة الاستخبارية، التي حصلت عليها شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" في أبريل 2022، والتي تضمنت سيناريو دقيقًا وضعته حماس لهجوم واسع يشمل اختراق الحدود، تعطيل المراقبة، واقتحام القواعد والمستوطنات. ورغم دقة الوثيقة، فقد اعتبرها الجيش سيناريو غير قابل للتنفيذ، ما أدى إلى تجاهلها كليًا، في واحدة من أهم حلقات الفشل التي سبقت هجوم 7 أكتوبر. فيما يذهب ميخائيل ميلشتاين أبعد من ذلك، واصفًا إياه بـ”العقل العسكري” للحركة والمخطط المركزي لهجوم 7 أكتوبر، وأحد مهندسي بناء “جيش حماس” على مدى عقدين.

هذا التوصيف لا يهدف فقط إلى تبرير الاغتيال أمام الرأي العام الإسرائيلي، بل إلى إعطائه وزنًا استثنائيًا: "إسرائيل" تريد القول إنها لم تستهدف شخصية رمزية أو ثانوية، بل أحد العقول المؤسسة التي تجمع بين الخبرة التنظيمية، والقدرة على إعادة البناء، والشرعية داخل الذراع العسكرية. ومن هنا تأتي الضربة المزدوجة: رمزية ووظيفية في آن واحد.

ثانيًا: اغتيال في توقيت سياسي لا عسكري فقط

التوقيت هو مفتاح الفهم. العملية نُفذت عشية الحديث عن الدخول في المرحلة الثانية من اتفاق وقف الحرب، وفي لحظة يضغط فيها ترامب باتجاه تثبيت الاتفاق باعتباره إنجازًا سياسيًا شخصيًا. هنا تلتقي قراءتا "إسرائيل اليوم" و"يديعوت": الاغتيال ليس فقط استهدافًا لقائد ميداني، بل اختبارًا مباشرًا لحدود الصبر الأميركي.

ليمور يصرّح بذلك بوضوح: “القاضي في واشنطن” هو العنوان الحقيقي للعملية. إذا لم يغضب ترامب، فذلك يعني ضوءًا أخضر ضمنيًا لاستمرار سياسة الاغتيالات في غزة، على غرار النموذج اللبناني. أما ميلشتاين فيربط العملية بمحاولة “تصميم قواعد اللعب” قبل أن تُفرض على إسرائيل ترتيبات سياسية وأمنية تقلص حرية عملها لاحقًا، سواء عبر قوة متعددة الجنسيات أو حكم محلي بديل.

بهذا المعنى، الاغتيال هو رسالة استباقية: "إسرائيل" تسعى لتثبيت معادلة أن وقف النار لا يعني وقف الاستهداف، وأن أي ترتيبات مستقبلية يجب أن تُبنى على قاعدة حرية اليد العسكرية الإسرائيلية.

ثالثًا: من الردع إلى إدارة الفراغ

مقال جاكي خوري في هآرتس يضيف بُعدًا مختلفًا، أقل احتفائي وأكثر تشككًا. فهو يقر بأن العملية تحمل هدفًا سياسيًا واضحًا: إضعاف “حماس” ككيان حاكم ومنعها من تقديم نفسها شريكًا مستقرًا في أي ترتيب قادم. لكنه في الوقت ذاته يحذّر من ثمن الفراغ.

وفق هذا المنظور، لم يعد الردع هو الهدف المركزي، لأن ميزان الردع التقليدي تآكل أصلًا، وقدرة “حماس” على الرد محدودة. الهدف الحقيقي هو إدارة مرحلة ما بعد “حماس” من دون تقديم بديل واضح، وهو ما يفتح الباب أمام سيناريو الفوضى والميليشيات. هنا يظهر التناقض الإسرائيلي: ضرب البنية القيادية من دون امتلاك تصور عملي لليوم التالي.

رابعًا: هل تُضعف الضربة “حماس” أم تؤجل المواجهة؟

ميلشتاين يقدّم القراءة الأكثر توازنًا: نعم، الضربة قاسية، وتؤثر على قدرات إعادة البناء، لكن التاريخ يثبت أن “حماس” تملك قدرة عالية على التكيّف والبقاء. تصفية قادة 7 أكتوبر، كما تفكيك الكتائب، لم يؤدِّ إلى حسم المعركة.

من زاوية عسكرية بحتة، اغتيال سعد يحدّ من الخبرة التراكمية، ويُربك مسارات إعادة التنظيم، لكنه لا يلغيه. ومن زاوية استراتيجية، قد يحقق لإسرائيل مكسبًا قصير المدى على حساب تعقيد المشهد طويل المدى، خصوصًا إذا أُجبرت لاحقًا على انسحابات إضافية أو ترتيبات أمنية لا تتوافق مع أهدافها المعلنة.

النتيجة: اغتيال يؤسس لمرحلة رمادية

اغتيال رائد سعد ليس نهاية فصل، بل افتتاح مرحلة رمادية بين الحرب والسياسة. هو محاولة إسرائيلية لفرض معادلة: لا حصانة لأحد، ولا قيود على الاستهداف، حتى في ظل وقف النار. لكنه في الوقت ذاته يكشف مأزقًا بنيويًا: القدرة على القتل لا تعني القدرة على الحسم، واستمرار سياسة “الجزّ” قد يمنع التعافي السريع لـ”حماس”، لكنه لا يقدّم إجابة عن سؤال من يحكم غزة، وكيف، وتحت أي توازنات.

في المحصلة، العملية تقول الكثير عن "إسرائيل" بقدر ما تقول عن “حماس”: دولة تحاول تأجيل استحقاق سياسي صعب عبر أدوات عسكرية، وتنظيم جريح لكنه لم يُكسر بعد، ويستعد للتكيّف مع واقع أكثر قسوة وتعقيدًا.