كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي تأتي ذكراها يوم نشر هذه المقالة، اللحظة الأهم، والأكثر دلالة، التي امتلك فيها الشعب الفلسطيني قدرةً واسعة على تحويل يوميّاته إلى فعلٍ كفاحيٍّ جامع؛ لحظةً اتّسع فيها الفعل الشعبي ليصبح إطارا ناظما للحياة كلّها، قبل أن تدخل القضية سلسلة التحوّلات العميقة التي ستعيد لاحقا تشكيل بنيتها السياسية والاجتماعية. من شأن الأحداث اللاحقة تاليا من أوسلو إلى تأسيس السلطة الفلسطينية فالانتفاضة الثانية، ثم الانقسام فحصار غزة، وصولا إلى موجات التطبيع فحرب الإبادة الجماعية، أن تغطي على تلك اللحظة، لعمق هذه الأحداث، ومفصليتها، وهول بعضها، لتصبح استعادةُ معنى تلك اللحظة ضرورةً لفهم ما جرى وما يجري.
فالانتفاضة الأولى لم تكن مجرد مواجهةٍ واسعة مع الاحتلال، بل كانت أوضح ظاهرةٍ للوحدة النضالية التي عرفها الفلسطينيون منذ عقود. ورغم كثرة الاختلافات السياسية والتنظيمية، نشأ في تلك السنوات ما يشبه الإجماع الفعلي على أن المواجهة مع الاحتلال هي المركز الذي تلتقي عنده الفصائل، والتي كانت وجها من وجوه المجتمع وأداة الشعب في تنظيم فعله النضالي، وأنّ الفعل الشعبي؛ الإضراب، والمقاطعة، ورمي الحجارة، ونصب المتاريس، ورفع العلم، والكتابة على الجدران.. هو اللغة التي يستطيع الجميع التحدث بها. وما منح هذا الفعل قوّته أنّه نشأ في شرطٍ موضوعيٍّ خاص: لم تكن توجد سلطة فلسطينية تفصل بين الناس وبين الاحتلال، وكانت قواته داخل المدن والبلدات والمخيمات؛ حاضرةً في تفاصيل الحياة. وهذا الالتحام جعل الاشتباك مباشرا، يسيرا، ومتاحا لكل فئات المجتمع، وحوّل أبسط الرموز إلى أفعال مقاومة ذات أثر، لأن الضغط كان يُوجَّه حينها إلى القوة نفسها التي تدير الحياة اليومية.
ولأن المجتمع كان مكشوفا تماما أمام الاحتلال، فقد وجد نفسه مضطرا إلى بناء بنياتٍ تُسند بقاءه وتساعده على مواصلة الفعل. وهكذا بدأ المجتمع في تنظيم نفسه عصاميّا وبنحو متداخل مع الفعل النضالي الفصائلي، كالتعليم الشعبي الذي يعوّض عن إغلاق المدارس وتعطيل العملية التعليمية، والحركة الطلابية التي ملأت الفراغ السياسي والاجتماعي وحملت عبئا أساسيّا من الفعل النضالي ودفعت نحو تطويره واستمراريته، والنقابات والاتحادات المهنية، والنشاط الديني والاجتماعي عبر المساجد، ولجان حلّ النزاعات، وشبكات الإغاثة الشعبية. لم تكن هذه البنية الاجتماعية العصامية ترفا تنظيميا، بل تعبيرا عن قدرة المجتمع على توليد أدواته حين لا يملك غير نفسه، وعن تحوّل الحاجة اليومية إلى رافعةٍ نضالية.
في قلب هذا المشهد وُلدت حركة حماس، لا بوصفها طارئا خارج بنية الانتفاضة، بل بوصفها ابنا من أبنائها. نشأت في سياقٍ كانت فيه الحركة الإسلامية قد رسّخت حضورها الاجتماعي، لكنها لم تخض تجربة المواجهة الوطنية بهذا النحو الواسع من قبل، فجاءت الانتفاضة لتدفعها إلى تحويل رصيدها الأهلي إلى مشروع مقاومة. كانت ولادة الحركة داخل هذا المناخ علامةً على أن الانتفاضة لم تكن حدثا فصائليا، بقدر ما كانت مساحةً مفتوحةً أُعيد فيها ترتيب الحقول الاجتماعية والسياسية، وبرزت فيها قوى جديدة، وتحوّلت فيها الفاعلية الإسلامية من الدعوة والخدمة إلى موقع الفعل الوطني المباشر. وفي ذلك إشارةٌ إلى عمق التحوّل الذي أطلقته الانتفاضة. لقد كانت، من ناحية اجتماعية وسياسية، مولِّدا لإعادة توزيع الأدوار في الحقل الوطني كلّه.
لكن هذا المسار لم يكتمل. فمع تغيّر موازين القوى بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ثم غزو العراق للكويت وانهيار التضامن العربي، وصولا إلى سقوط الاتحاد السوفييتي، اتّجهت القيادة الفلسطينية نحو خيار التسوية السياسية. كان هذا الميل مندفعا عمليّا قبل ذلك بعقدين، منذ نهاية حرب تشرين/ أكتوبر 1973، ثمّ ما تلا ذلك من طرح برنامج الحل المرحلي (النقاط العشر)، لكن الانتفاضة الأولى هي التي جعلت هذا الخيار ممكنا من حيث الظرف، لا من حيث المنطق السياسي. ذلك أنّ المعضلة الجوهرية بقيت بلا حل، فكيف تُقام سلطة في ظل الاحتلال دون أن تتحوّل بالضرورة إلى كيانٍ مشلولٍ نضاليا وعاجزٍ سياسيا؟ لقد نبّه كثير من المفكرين الفلسطينيين، والعديد من الكيانات الوطنية، إلى هذه المشكلة مبكرا؛ منذ مطالع السبعينيات، لأن السلطة التي تنشأ تحت السيطرة المباشرة للمحتل ستكون مضطرة إلى التزاماتٍ تجعلها من موقعٍ إداريٍّ وأمنيٍّ أقرب إلى تقييد الفعل الشعبي منه إلى رعايته.
وهنا بدأت القطيعة مع الانتفاضة. لم يكن الأمر قطعا مع أسلوب مواجهة فحسب، بل مع مصادر القوة التي صنعتها الانتفاضة، كالإجماع الشعبي، والبنى العصامية، وإمكانية الاشتباك المباشر. فوجود سلطة فلسطينية بواجباتٍ وتعهدات يجعلها بالضرورة في موقعٍ مقابلٍ لأي توجّه نضالي لا ينسجم مع متطلبات العقد الذي تأسست عليه. ثم جاءت فكرة "إعادة الانتشار" العبقرية بالنسبة للاحتلال، والتي عنت انسحاب الجيش من مراكز المدن مع استمرار سيطرته على الضفة الغربية، أي مع بقاء الاحتلال، وتكريس سياساته في الحقول الاستيطانية والأمنية والطرق والمجال الحيوي، لتُحكِم هذه القطيعة. فقد حُرم الفلسطينيون من أدوات الاشتباك الشعبي السلمي التي نضجت في الانتفاضة الأولى، بينما تحرّر الاحتلال من تبعات إدارته المباشرة للسكان وواصل فرض الوقائع التي فرّغت الحكم الذاتي من معناه.
ومنذ تلك اللحظة، أصبحت كل محاولة لتعديل المسار، حتى لو كانت تحاول محاكاة أساليب الانتفاضة الأولى، مكلفةً ومتوقعة القمع المنفلت من أيّ كابح. ظهر ذلك في المراحل الأولى من الانتفاضة الثانية قبل عسكرتها، وفي مسيرات غزة السلمية قبل سنوات قليلة. الفعل الذي كان متاحا في الانتفاضة الأولى لم يعد ممكنا بالصيغة ذاتها، لأن المسرح كلّه تغيّر، إذ بتنا إزاء مجتمع منزوع الأدوات، وسلطة محكومة بالتزامات، واحتلال يمارس السيطرة بلا كلفة تُذكَر.
وبهذا يتضح أن ما جرى لم يكن انتقالا من مرحلةٍ إلى أخرى، بل قطعا مع القدرة التاريخية التي امتلكها الفلسطينيون ذات يوم. ومع كل ما جرى لاحقا، من الانتخابات التشريعية عام 2006 وفوز حماس، إلى الانقسام، إلى حصار غزة، إلى جولات المواجهة المفتوحة، بقيت القطيعة الأولى هي الأصل البنيوي للخلل. فالانقسام لم يولد من مجرد خلاف سياسي، بل من أنّ تأسيس السلطة جعل معيار الوطنية مرتبطا بموقفٍ من السلطة نفسها، لا من الاحتلال. وتحوّل الصراع من صراعٍ مع المحتل إلى صراعٍ على شكل السلطة وعلى شروط بقائها.
إن فهم هذه السلسلة لا ينطلق من رغبةً في اجترار الماضي، إنما هو شرط لفهم اللحظة الراهنة. فما نعيشه اليوم لا يمكن قراءته خارج هذا الانقطاع التاريخي من فقدان الأدوات الشعبية التي صاغت القوّة الفلسطينية، وبروز سلطة لا تستطيع حمل مشروعها، واحتلال أعاد هندسة المجال بحيث تصبح المواجهة الشعبية شبه مستحيلة، بينما يتواصل الصراع بأشكالٍ جديدة لا تلغي جذوره الأولى في تلك السنوات التي يُوشك كثيرون أن ينسوها.



