تعيش الساحة الفلسطينية اليوم واحدة من أكثر لحظاتها غموضاً وتشعباً منذ النكبة، وربما منذ بداية الصراع نفسه. فالحرب التي شُنّت على غزة بعد 7 أكتوبر 2023 لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل هزة عميقة أعادت فتح كل الملفات؛ الهوية، المشروع الوطني، بنية النظام السياسي، مستقبل الضفة والقدس، وحتى موقع القضية الفلسطينية في النظام الدولي.
وسط هذا المشهد، تسود بين الفلسطينيين أربع قراءات مختلفة للواقع والمصير… وكل قراءة تحمل في طياتها شيئاً من الواقع وشيئاً من القلق.
أولاً: تباين الرؤى الفلسطينية… لماذا؟
1. شريحة تائهة فقدت البوصلة
وهي الأكثر عدداً:
هذه الشريحة تشاهد حجم الدمار والقتل والنزوح، بينما يغيب عن المشهد أي أفق سياسي واضح، فيتشكل لديها شعور بأن المستقبل أكثر غموضاً من أي وقت مضى.
2. شريحة ترى ما يحدث “مسرحية لتغيير المنطقة":
هذه القراءة نابعة من حجم التواطؤ الدولي، ومن السوابق التاريخية لإعادة تشكيل الإقليم عبر الحروب.
لكنها قد تبالغ في تحويل كل الأحداث إلى "مخطط خارجي"، وتتجاهل ديناميات المقاومة، وقدرتها على التأثير في اللعبة الإقليمية.
3. شريحة تعتبر أن 7 أكتوبر أنهى القضية الفلسطينية:
وهي قراءة فائقة التشاؤم، تنظر إلى الدمار كدليل على انهيار كل معادلات القوة.
لكنها تقفز فوق حقيقة أن القضية بعد الحرب أصبحت حديث العالم أكثر من أي وقت منذ الانتفاضة الثانية.
4. شريحة ترى أن ما حدث “فتح الباب” عالميًا للقضية:
هذه القراءة تعوّل على التضامن الدولي الضخم، وانكشاف "إسرائيل" أخلاقياً وسياسياً لأول مرة بهذا الشكل.
وهذا الاختلاف طبيعي، بل صحي، في ظل حرب إبادة غير مسبوقة أعادت طرح السؤال الأساسي: ما هو مستقبل فلسطين؟
ثانياً: أين تقف الولايات المتحدة؟ ولماذا أصبحت غزة على مكتب البيت الأبيض؟
منذ الأيام الأولى للحرب، بات واضحاً أن الولايات المتحدة وضعت الملف الفلسطيني–"الإسرائيلي" مباشرة ضمن أولويات أمنها القومي.
والسبب يعود لعدة اعتبارات:
1. فشل "إسرائيل" في تحقيق أهدافها:
واشنطن وجدت نفسها أمام مشروع عسكري "إسرائيلي" يستنزف المنطقة ويهدد بانفجار إقليمي، دون قدرة تل أبيب على حسم المعركة.
2. الانزلاق الإقليمي المحتمل:
التوتر والاحتكاك العسكري الحاصل بين "اسرائيل" مع ايران ولبنان واليمن وسوريا قد تؤدي إلى حرب إقليمية محتملة، وهذه كلّها قد تشابكت بغزة.
3. مستقبل "إسرائيل" السياسي:
الولايات المتحدة باتت مقتنعة أن "إسرائيل" ما بعد الحرب ليست هي ما قبلها، من حيث القدرة العسكرية، الوحدة الداخلية، والشرعية.
4. ضغط عالمي غير مسبوق:
العزلة الأخلاقية والسياسية "لإسرائيل" تزداد، وهذا يفرض على واشنطن البحث عن صيغة “إنقاذ” تحفظ ما تبقى من صورتها أيضاً.
ولهذا أصبح ملف غزة مفتوحاً حتى نهاية فترة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بما يعني أن الترتيبات السياسية والإقليمية ستكون بطيئة، متدرجة، وربما مؤلمة لجميع الأطراف.
ثالثاً: إلى أين نحن ذاهبون؟ قراءة مستقبلية في ستة مسارات:
1. مستقبل غزة: مرحلة انتقالية معقدة:
غزة ما بعد الحرب لن تعود كما كانت، ليس بسبب الدمار فحسب، بل لأن القوى الدولية تريد إعادة صياغة شكل السلطة فيها.
السيناريو الأكثر تداولاً:
وجود إدارة فلسطينية معاد تشكيلها.
دور دولي/عربي في الإعمار والإشراف.
تحجيم "لإسرائيل " دون إنهاء تحكمها الأمني.
لكن المقاومة، إذا بقيت صامدة في جزء من القطاع، ستُبقي كل السيناريوهات مفتوحة.
2. الضفة الغربية: برميل بارود ينتظر شرارة:
تسارع الاستيطان، وسطوة اليمين الصهيوني، وانهيار الثقة بالسلطة الفلسطينية، جعل الضفة على حافة الانفجار.
الحرب في غزة أجّلت الانفجار لكنها لم تمنعه.
الضفة اليوم محور الصراع القادم.
3. القدس: التهويد في أعلى مستوياته:
الحرب خلقت غطاءً سياسياً لحكومة الاحتلال لتسريع مشاريع التهويد، لكن في المقابل، جعلت القدس مركزاً رمزياً عالمياً للقضية، وقد تعود لتكون شرارة موجة مقاومة جديدة كما كانت في 2021.
4. المشهد السياسي الفلسطيني: الحاجة لإعادة التأسيس
هناك شبه إجماع دولي—وليس فقط فلسطيني—على أن الوضع الداخلي الفلسطيني غير قابل للاستمرار.
المطلوب:
إعادة بناء منظمة التحرير
تشكيل قيادة موحدة
صياغة مشروع وطني جامع
هذه ليست رفاهية، بل شرط لبقاء الشعب والقضية.
5. "إسرائيل ": كيان يدخل مرحلة “ما بعد الهيبة”:
الحرب كشفت هشاشة الجبهة الداخلية، عدم يقضة الجيش وأجهزة الأمن وضعفها، وتعمق الانقسام.
قد نشهد:
انتخابات مبكرة
إعادة رسم للخريطة السياسية
صراعاً بين اليمين والمؤسسة العسكرية
وكل ذلك ينعكس مباشرة على الفلسطينيين.
6. القضية الفلسطينية دولياً: من التهميش إلى مركز الطاولة:
لأول مرة منذ انتفاضة الأقصى، تعود القضية الفلسطينية لتكون بنداً مركزياً في مجلس الأمن والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي والمحطات الإعلامية الكبرى.
وهذه لحظة يجب استثمارها، لا انتظارها فقط.
رابعاً: خلاصة تحليلية – ماذا بعد؟
الحرب لم تُنهِ القضية الفلسطينية… بل أعادت صياغتها.
لكنها في الوقت ذاته لم تُنتج نصراً سياسياً جاهزاً.
نحن أمام مرحلة انتقالية صعبة، قد تمتد سنوات، ستحدد خلالها النقاط التالية مستقبل فلسطين:
1. قدرة الفلسطينيين على إعادة بناء مشروع وطني موحد
2. مسار العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل
3. استمرار المقاومة أو تحولها شكلاً ومضموناً
4. تغيرات الإقليم ،خصوصاً في سوريا ، لبنان، وإيران



