شبكة قدس الإخبارية

مِن العدوّ إلى الحاجة: التحوّل البنيوي في موقع "إسرائيل" داخل النظام العربي

220252164536675359958
ساري عرابي

 

اعتمد مجلس الأمن في 31 تشرين الأول/ أكتوبر قرارا يمنح الصحراء الغربية حكما ذاتيّا حقيقيّا تحت السيادة المغربية. وقد صوّتت لصالح القرار 11 دولة، وامتنعت روسيا والصين وباكستان، فيما تغيّبت الجزائر عن التصويت. جاء القرار في مصلحة المملكة المغربية التي سارعت إلى الترحيب به. وكان لافتا أنّ الجزائر، بالرغم من علاقاتها الاستثنائية بكلٍّ من روسيا والصين، لم تتمكن من إقناعهما باستخدام حق النقض. يذكّر هذا بتساؤلات وُجّه فيها الاتهام إلى دبلوماسية المقاومة، حين امتنعت روسيا والصين عن التصويت على الخطة الأمريكية المتعلقة بغزة، وهي الخطة التي اعتمدها مجلس الأمن، وبتصويت الجزائر نفسها لصالحها.

كثيرون تساءلوا حينها عن عجز المقاومة عن إقناع الجزائر حتى تستثمر علاقاتها بالدولتين العظميين لمنع تمرير الخطة الأمريكية، غافلين عن أنّ الجزائر ذاتها عجزت عن إقناع هاتين الدولتين في قضية تمسّ ما تعتبره مصلحتها الاستراتيجية الكبرى في مجالها الحيوي.

ولا يمكن عزل القضيتين عن بعضهما؛ فالتطبيع المغربي/ الإسرائيلي، الذي أُعلن عنه في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2020، ووقّع رسميّا في 22 من الشهر نفسه، جاء بعد اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء وتبنّيها لمقترح الحكم الذاتي المغربي. ويبدو أنّ هذا التطور دفع الجزائر إلى إعادة صياغة مواقفها بشأن القضية الفلسطينية، كما ظهر في تبنّيها لخطة ترامب ودفاعها عنها وتصويتها لصالحها في مجلس الأمن. ولا ينفصل الموقف الجزائري هنا عن عموم الموقف العربي والإسلامي الذي أدّى دورا مهمّا في التمهيد للخطة والدفع نحو إنفاذها قبل إعلانها من ترمب أصلا، وهو ما ترك أثرا واضحا على كيفية تعاطي المقاومة مع الخطة، لينتهي الأمر إلى قرار تصفويّ في مجلس الأمن.

وتاريخ العلاقات المغربية الإسرائيلية قديم يعود إلى الخمسينيات، ولا سيما في ملفّ ترتيب الهجرة اليهودية إلى "إسرائيل". وبحسب الباحث الإسرائيلي شموئيل سيغف في كتابه "العلاقة المغربية: الاتصالات السرّية بين إسرائيل والمغرب"، فقد وقّعت الدولتان عام 1963 اتفاقية سلاح برعاية شاه إيران، شملت دبابات فرنسية وطائرات حربية للمساهمة في الحرب مع الجزائر، التي حظيت بدعم مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

كما يروي إيلي بودا في كتابه من "عشيقة إلى زوجة شرعية" أن "إسرائيل" ساعدت في تأسيس جهاز الاستخبارات المغربي بعد عام 1967، وأن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة دفع، منذ السبعينيات، نحو دعم الموقف المغربي بخصوص الصحراء، وقدمت "إسرائيل" للمغرب دعما أمنيّا وتقنيّا لبناء الجدار الأمني في الصحراء. وكان المغرب من أوائل الدول العربية التي استقبلت زيارات علنية لمسؤولين إسرائيليين، كما في استقباله إسحاق رابين عام 1976، وشمعون بيريس عام 1986. ثم سارع إلى موجة تطبيع التسعينيات، بافتتاح مكتب ارتباط إسرائيلي في أيلول/ سبتمبر 1994.

ويُلاحظ حضور إسرائيلي كثيف في الملف المغربي الجزائري منذ "حرب الرمال" عام 1963، على خلفية مطالبة المغرب ببعض المناطق داخل الجزائر. وقد أسّست تلك الحرب لعلاقات متوترة بين البلدين، بشكل سهّل لـ إسرائيل" اختراق المنطقة المغاربية.

اتخذ دخول "إسرائيل" على خطوط المشكلات العربية أشكالا متعددة، فقد يكون هذا الدخول عبر فرض التفاهم معها على دول عربية، كما في تعزيز "إسرائيل" لنفوذها داخل بعض الأقليات أو عبر احتلالها أراضي عربية، بحيث تُدفَع تلك الدول إلى القبول بها باعتباره السبيل الوحيد لحلّ المشكلات التي تسببت "إسرائيل" في وجودها أو دعمت تفاقمها.

وقد يكون هذا الدخول عبر تحوّل "إسرائيل" إلى "حاجة" لدولة عربية بعينها، كما يظهر في الحالة المغربية بخصوص قضية الصحراء، أو عبر تحوّلها إلى حاجةٍ لأنظمة عربية أخرى لتعزيز استقرارها الداخلي، أو لفتح قنوات التأثير على الولايات المتحدة، أو للحصول على تقنيات تجسسية، أو لتشكيل شبكة تحالفات إقليمية.

ويظل هذا كلّه ممكنا ما دامت "إسرائيل" لا ترى مشكلة في أيّ نظام عربي لا يعاديها ولا يسعى إلى منافستها إقليميّا.

والأمثلة على ذلك كثيرة، قديما وحديثا، إلا أنّ الاكتفاء بالإشارة إلى المدخل الإسرائيلي في قضية الصحراء فرضه قرب هذه التطورات وحداثتها، فضلا عن أثرها الفادح على القضية الفلسطينية رغم البعد الجغرافي. فهذا البعد لم يمنع "إسرائيل" من استثمار الخلاف الجزائري المغربي، تماما كما عملت دائما على شق الصفّ العربي وإذكاء التناقضات العربية وخلق قضايا تتعارض مع القضية الفلسطينية. وبذلك تتحول "إسرائيل" من عدوّ، إلى واقع لا يمكن تغييره، ثم إلى حاجة عربية. وبما أنّها حاجة؛ انتقلت القضية من "قضية فلسطينية" إلى "قضية إسرائيلية"، وهو ما ينسجم مع التصورات الدولية السائدة: فالشعب الفلسطيني يُنظر إليه بوصفه طرفا هامشيّا ناتجا عن القضية الأساسية، وهي قيام دولة "إسرائيل".

وقد أصبح هذا التصور حاضرا في السياسات العربية؛ إذ تتجه الدول العربية نحو التكيف مع "إسرائيل" بوصفها "حقيقة سياسية لازمة"، دون اعتبار كافٍ للطرف الأكثر تضررا: الشعب الفلسطيني. وقد تجلّى ذلك في قرار مجلس الأمن الأخير الذي فصّلناه في مقالات سابقة.

وتبرز هنا التساؤل: ما مظاهر التحول العربي من اعتبار "إسرائيل" مشكلة ينبغي التخلص منها إلى اعتبارها حاجة يجب حماية مصالحها ومعالجة أضرارها الجانبية، أي تضرر الفلسطينيين، بما يخدم أصل الحاجة؟

يكفي للدلالة على ذلك المثال الذي افتتحت به المقالة: تطورات قضية الصحراء، وكيفية التدخل الإسرائيلي فيها، وانعكاس ذلك على الموقف الجزائري في مجلس الأمن من الخطة الأمريكية، وهو موقف يُمثِّل الموقف العربي العام، ولا يمكن تحميل الجزائر وحدها وزره. لكن الانعكاس الأوضح كان على الخطاب الجزائري نفسه، في مستويات رسمية وغير رسمية، حين برزت مفردات حادّة تجاه الفلسطينيين، غريبة على الخطاب الجزائري التقليدي، وإن كانت مألوفة في سياقات عربية أخرى. وقد أعاد بعض هذا الخطاب تدوير العداء للإسلاميين بما ينسجم مع التوجهات العربية الراهنة التي لا ترى عدوّا رئيسا سوى ما يسمّى "جماعات الإسلام السياسي"، وهي، في التصنيفات العربية الرسمية، الحاضنة التي تُدرج فيها أكبر قوى المقاومة في غزة.

والنظرة الإجمالية للنهج العربي الحالي تجاه "القضية الإسرائيلية" تكشف انحيازا واسعا لـ"إسرائيل"، بغضّ النظر عن دوافع هذا الانحياز، وذلك في مختلف الملفات. فقد جرى تحويل العجز عن مواجهة الإبادة في غزة إلى موقف مناوئ للمقاومة ذاتها، وجرى فرض خطاب إعلامي واحد في الفضاء العربي، يقوم على تحميل الضحية المسؤولية بمعزل عن السياق الاستعماري الكامل. وهو خطاب تخجل منه، بل تزدريه، فعاليات غربية كثيرة، ترفض التخلي عن صدقها الأخلاقي في تناول المأساة الفلسطينية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الخطاب، بل امتد إلى احتواء الفعاليات الشعبية المتضامنة مع غزة، سواء في التظاهر أو جمع التبرعات أو النشاط الإعلامي، وصولا إلى الاعتقالات المباشرة، ثم توسّع باتجاه حظر القوى الحزبية والشعبية الأكثر اهتماما بالشأن الغزّي. وفي الوقت نفسه، استمرّ التعاون الاقتصادي والأمني مع "إسرائيل"، وظلّت العلاقات الدبلوماسية معها قائمة في عدد من الدول العربية، مما يمثل دعما مباشرا للإبادة.

وأفضى هذا كله إلى سياسة عربية واضحة تكاد تكون موحدة في جوهرها تجاه "القضية الإسرائيلية": حصار المتضررين من "إسرائيل" والضغط عليهم وابتزازهم.

ففي الضفة الغربية تنضم الدول العربية إلى "إسرائيل" والولايات المتحدة في مطالبة السلطة الفلسطينية بإصلاحات قبل أي مسار سياسي، ما عزز الحصار الاقتصادي الذي يعيشه الفلسطينيون تحت القتل اليومي وشلل الحركة، محولا الضفة إلى بيئة طاردة.

وفي غزة صار الشرط قبل أي تعمير معروفا: تخلي المقاومة عن ذاتها، لا بتسليم السلاح فقط، بل بالاعتذار الضمني لـ"إسرائيل".

وفي لبنان ينحصر الموقف العربي بالمطالبة بنزع سلاح حزب الله.

أما في سوريا، حيث لا إيران ولا مقاومة ولا طلقة ابتدائية على "إسرائيل" (ما حصل في بيت جن أخيرا، رد فعل على اقتحام إسرائيلي متكرر)، فلا تُجيد الدول العربية سوى الضغط باتجاه استرضاء "إسرائيل".