شبكة قدس الإخبارية

انهيار السردية الإسرائيلية: من تبرير الحرب إلى الاعتراف بالفشل

thumbs_b_c_76d6cb0a16c3aa804097effb3af900a8
رامي أبو زبيدة

 

يشهد الخطاب الإسرائيلي خلال الأسابيع الأخيرة تحولاً مهماً في تقييم الأداء السياسي والعسكري لدولة الاحتلال، حيث انتقلت المقالات والتقديرات الإسرائيلية من محاولة تبرير الأداء العسكري وتسويق «الإنجازات» إلى الاعتراف الصريح بوجود فشل استراتيجي شامل يضرب منظومة الأمن القومي الإسرائيلية في عمقها. هذا التحول لم يعد مقتصراً على الأصوات الهامشية أو المعارضة التقليدية، بل بات يظهر بوضوح في كتابات شخصيات محسوبة على المؤسسة الأمنية والإعلامية الرئيسية، ما يعكس إدراكاً داخلياً متزايداً بأن إسرائيل تواجه أزمة غير مسبوقة تتجاوز حدود الحرب الحالية وتصل إلى بنية الكيان نفسه.

في مقال لافت في صحيفة «هآرتس»، يكتب نحاميا شترسلر، المعروف بدفاعه الطويل عن سياسات نتنياهو الاقتصادية والسياسية، جملة غير مسبوقة حين يقول: «لقد فشل نتنياهو في إخضاع أي من الأعداء. حماس بقيت، حزب الله بقي، إيران تزداد قوة، والضفة الغربية تغلي. لم يتحقق أي هدف من أهداف الحرب». لا يكتفي شترسلر بهذا التوصيف، بل يتجاوز الخطوط الحمراء التقليدية في الإعلام الإسرائيلي ليقول: «لقد جلب الشخص الأحقر في تاريخ الشعب اليهودي هزيمة استراتيجية. لم يسبق لإسرائيل أن خرجت من حرب وهي أضعف، أكثر عزلة، وأقل ردعاً مما كانت عليه». هذا النوع من اللغة يشير إلى لحظة انهيار السردية الرسمية التي حاولت الحكومة ترسيخها منذ بداية الحرب، ويعكس تحوّل النقد من مستوى الأداء إلى مستوى الشرعية السياسية والاستراتيجية للقيادة الحالية.

ما يطرحه شترسلر يمتد إلى أبعد من تقييم نتائج الحرب، فهو يربط الفشل العسكري بانهيار المكانة الدولية، قائلاً: «نحن نخسر مكانتنا في العالم. علاقتنا مع الولايات المتحدة في أسوأ حالاتها، ولم نعد قادرين على فرض إرادتنا على أي ساحة». هذا الربط بين الأداء العسكري والتآكل الدبلوماسي يكشف انتقال النقاش الإسرائيلي من نقد تكتيكي إلى إدراك انهيار شامل في عناصر القوة الإسرائيلية التقليدية.

وفي سياق موازٍ، يقدم البروفيسور عيزر غات، في دراسة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي، قراءة مختلفة في الشكل مشابهة في النتائج، إذ يحذر من أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية «تستعد للحرب الخطأ». ويقول بوضوح: «نحن نستثمر مليارات في دبابات وطائرات لا تغير الواقع العملياتي في مواجهة الأنفاق والصواريخ الدقيقة». ويضيف: «غياب حل لمعضلة الأنفاق أجبر الجيش على نشر خمس أو ست فرق في غزة دون قدرة على تحقيق نتيجة حاسمة. هذا يعني أن القدرة البرية الإسرائيلية لم تعد قادرة على تنفيذ مهام المناورة». أخطر ما يقوله غات هو إقراره بأن «التفوق الجوي لا يُترجم إلى إنجاز استراتيجي. يمكن لإسرائيل أن تقصف بلا توقف، لكنها لا تستطيع السيطرة على الأرض أو تغيير المعادلة». هذا الاعتراف بمحدودية القوة الجوية يمثل انقلاباً فكرياً في أساس العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي بنيت لعقود على مفهوم الحسم الجوي.

وفي صحيفة «معاريف»، يذهب آفي أشكينازي إلى بعد آخر يتعلق بطبيعة القيادة السياسية، محذراً من تسييس الجيش وتحويله إلى أداة حزبية. يقول: «إسرائيل تنهار بسبب رجل عديم المسؤولية. يعتقد فعلاً أنه إذا حوّل الجيش إلى فرع من حزب الليكود، فسيضمن لنفسه مكاناً متقدماً في الانتخابات». ويكشف أن تجميد التعيينات العسكرية وتعطيل عمليات بناء القوة يحدثان في لحظة تعتبر الأكثر خطورة منذ تأسيس الدولة، مضيفاً: «هناك شعور داخل الجيش بأن القيادة السياسية مستعدة لتعريض أمن الدولة للخطر من أجل مصالح شخصية». هذا النوع من الاتهامات يعكس أزمة ثقة داخلية غير مسبوقة، إذ لم يعد الجيش ينظر إلى القيادة السياسية كشريك استراتيجي، بل كعامل تهديد مباشر.

أما الجنرال الاحتياط إسحق بريك، فيقدم الصورة الأكثر قتامة حين يقول: «الجيش البري موجود في الوضع الأصعب له منذ قيام الدولة». ويشرح: «يمكن تشكيل فرقتين من السلاح الموجود في أيدي البدو في الجنوب. مستودعات الطوارئ مهجورة، والذخيرة تُسرق، ولا أحد يتحمل المسؤولية». ثم يضيف التحذير الأخطر: «الجيش غير قادر على حماية مواطني الدولة في الحرب القادمة. نحن نعيش في زمن مستقطع». هذه اللغة التي يستخدمها بريك، القادم من داخل المؤسسة العسكرية، تعكس انهياراً في بنية الجاهزية والاحتياط والقدرة اللوجستية، وهو ما يمس العمود الفقري لمنظومة الأمن الإسرائيلية.

إن اجتماع هذه الأصوات، رغم اختلاف خلفياتها، يكشف تشكّل سردية جديدة داخل الاحتلال مفادها أن الأزمة الحالية ليست نتيجة حرب واحدة أو قيادة ضعيفة فحسب، بل نتيجة تراكمات هيكلية أصابت العقيدة الأمنية، والجاهزية العسكرية، والقدرة الردعية، والعلاقة بين الجيش والسلطة السياسية، والمكانة الدولية للدولة.

(إسرائيل)، وفق هذه الكتابات، تنتقل من صورة «الجيش الذي لا يُقهر» إلى واقع دولة تعاني من فوضى مؤسساتية وانهيار الثقة وتراجع القدرة على الحسم أو الدفاع.

وتشير هذه الاتجاهات إلى أن (إسرائيل) تدخل مرحلة إعادة تعريف ذاتها العسكرية والسياسية، وأن النقاش لم يعد حول كيفية إدارة الحرب، بل حول إمكانية استمرار النموذج الأمني الذي تأسست عليه الدولة منذ عام 1948.