فلسطين المحتلة - شبكة قُدس: منذ قرونٍ طويلة، شكّل المسيحيون الفلسطينيون جزءًا أصيلًا من النسيج الإنساني والثقافي في فلسطين، ولم يكونوا مجرّد طائفة دينية، بل نخبة فكرية وتعليمية أسهمت في بناء مؤسسات الصحافة والمدارس والمستشفيات والجمعيات الخيرية، وشاركت في حركة التحرر الوطني منذ بداياتها.
لكن الاحتلال الإسرائيلي، الذي فرض سيطرته أولا على الأراضي المحتلة عام 1948 ثم على الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، غيّر ملامح هذا الوجود تدريجيًا عبر منظومة مركبة من الإغلاق والمصادرة والتهميش، حتى تقلصت نسبة المسيحيين من نحو 12.5 في المئة من سكان فلسطين قبل النكبة إلى قرابة 1 في المئة فقط اليوم.
منذ نكبة 1948، تقلّص الوجود المسيحي في فلسطين بنحو تسعين في المئة؛ فقبل قيام كيان الاحتلال، كان عدد المسيحيين في فلسطين التاريخية يقدّر بأكثر من 150 ألف نسمة، أي ما نسبته 12 إلى 13 في المئة من إجمالي السكان، موزّعين على القدس وبيت لحم وحيفا والناصرة ويافا وغزة.
أمّا اليوم، وبعد أكثر من سبعة عقود من الاحتلال العسكري للقدس والضفة الغربية وما تبعه من جدارٍ واستيطانٍ وتهجيرٍ قسريّ، فلا يتجاوز عدد المسيحيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة 45 إلى 47 ألفًا، أي أقل من 1 في المئة من السكان، وهذا يعني أنّ الاحتلال الإسرائيلي، بما فرضه من قيودٍ على الحركة، ومصادرةٍ للأراضي، وحرمانٍ اقتصاديّ، وهدمٍ للمقدسات، ساهم في نزيفٍ ديموغرافيّ جعل الوجود المسيحي يتراجع بأكثر من عشر مرات عمّا كان عليه عند النكبة.
الاحتلال لم يكتفِ بتقليص العدد عبر الحرب والتهجير، بل حافظ منذ 1967 على سياساتٍ تُفرغ الأرض من أهلها تدريجيًا، وذلك من خلال حواجز تُعيق الحياة اليومية، وجدارٌ عزل مدن الضفة عن القدس، واستيطانٌ تمدّد على أراضي الكنائس والمواطنين، وحصارٌ جعل غزة بيئة طاردة للعيش.
وبينما كان المسيحيون قبل النكسة يشكلون نحو 7 إلى 8 في المئة من سكان الضفة وغزة، تراجعت نسبتهم اليوم إلى ما دون 1 في المئة. بهذا المعنى، لا يمكن قراءة التراجع السكاني كمجرّد تحوّل طبيعي في التركيبة السكانية، بل كنتيجةٍ مباشرة لمنظومة استعمارية تُعيد إنتاج النكبة بصورةٍ بطيئة ومستمرة.
وقال رئيس التجمع الوطني المسيحي في الأراضي المقدسة، ديمتري دلياني، إن الاحتلال يستهدف المسلمين والمسيحيين دون تفرقة في إطار حربه الشاملة على الشعب الفلسطيني.
وأضاف، أن الاحتلال تعمّد خلال العامين الماضيين استهداف الكنائس والمجتمع المسيحي في غزة والضفة والقدس، عبر القصف والحصار والتجويع، مما تسبب في تدمير ثلاث كنائس ومآسٍ إنسانية واسعة، كما أنه يسعى لتقويض الدور الثقافي والمعرفي للمسيحيين باعتبارهم جسرًا حضاريًا مع الغرب، في محاولة لمنعهم من نقل الرواية الفلسطينية.
وبحسب دلياني، فإن "سلطات الاحتلال تقيّد حركة المسيحيين بين بيت لحم والقدس وتغلق المواقع الدينية مثل جبل الطور، إلى جانب التدخل في شؤون الكنائس وممتلكاتها وحملات التشويه التي تستهدف الثقة بينها وبين رعاياها".
وجمد الاحتلال أصول الكنائس المالية وفرض ضرائب باهظة لتعطيل دورها في دعم صمود الفلسطينيين، لافتًا إلى تجميد حسابات بطريركية الروم الأرثوذكس بذريعة "الأرنونا"، وفق دلياني. داعيا الكنائس والمؤسسات المسيحية حول العالم إلى التحرك السياسي والإعلامي لوقف الانتهاكات الإسرائيلية، وتعزيز صمود المسيحيين وملاحقة الاحتلال على جرائمه في المحافل الدولية.
ولا تختلف معاناة المسيحيين الفلسطينيين عن معاناة بقية أبناء شعبهم في ظل الاحتلال؛ فمنذ عام 2000، تحولت الضفة الغربية إلى فسيفساء من الحواجز العسكرية التي تقطع الطرق وتجزّئ المدن والقرى، وأصبح الوصول إلى القدس – حيث كنيسة القيامة، أقدس المواقع المسيحية في العالم – حلمًا مشروطًا بتصريحٍ أمنيّ يصدر أو يُرفض وفق اعتبارات استخبارية بحتة. التصاريح تُمنح غالبًا لكبار السن فقط، وتُمنع عن العائلات الكاملة، فتغيب مشاهد الموكب العائلي الذي كان يملأ شوارع القدس في أعياد الميلاد والفصح.
وفي قطاع غزة، المحاصر منذ أكثر من 18 عامًا، يعيش المسيحيون تجربةً أشدّ قسوة؛ فالحصار يمنعهم من الخروج للصلاة في بيت لحم أو القدس إلا نادرًا، حتى في أوقات الأعياد. ومئات الطلبات تُقدَّم سنويًا للحصول على تصاريح "زيارة مقدسات"، لكنّ سلطات الاحتلال تسمح لعشراتٍ فقط، وغالبًا بشروطٍ مهينة. أمّا خلال الحروب، فقد تحولت الكنائس إلى ملاجئ للنازحين، قبل أن تطالها القذائف نفسها التي تلاحق المدنيين في بيوتهم.
في الحرب الأخيرة، استُهدفت كنيسة القديس برفيريوس، أقدم كنائس غزة، فاستشهد عشرون مسيحيًا كانوا يحتمون فيها، بينهم نساء وأطفال، كما تضرر مستشفى الأهلي المعمداني الذي تديره الكنيسة الإنجيلية في قصف دموي أودى بمئات الأرواح.
في الضفة الغربية، يمتدّ القيد من الحركة إلى الأرض؛ جدار الفصل العنصري، الذي بدأ بناؤه عام 2002، فصل بيت لحم عن القدس، وابتلع مساحاتٍ واسعة من أراضي القرى المسيحية، خاصة في بيت جالا ووادي كريمزان، حيث صودرت مئات الدونمات من كروم الزيتون التي كانت مصدر رزقٍ لعشرات العائلات منذ قرون، ومع الجدار، توسعت المستوطنات المحيطة لتشكل طوقًا خانقًا حول المدينة، محوِّلةً المشهد المقدس إلى جيوبٍ محاصرة لا يمكن الوصول إليها إلا عبر بواباتٍ حديدية وتفتيشٍ عسكري.
القيود لا تتوقف عند الجغرافيا، بل تمتد إلى المعنى الروحي ذاته؛ ففي السنوات الأخيرة، فرضت شرطة الاحتلال قيودًا مشددة على أعداد المشاركين في احتفالات "سبت النور" في كنيسة القيامة، وأغلقت الممرات المؤدية إليها بحجة "السلامة"، واعتدت بالضرب على كهنة ومصلين حاولوا اجتياز الحواجز.
في القدس القديمة، تكررت اعتداءات المستوطنين على رجال الدين المسيحيين بالبصق والشتائم، فيما وقعت عمليات تخريبٍ متعمدة لمقابر مسيحية قديمة، ولا تُقابل هذه الانتهاكات بأيّ محاسبة، بل يجري تبريرها ضمنيًا باعتبارها “تصرفات فردية” أو “خلفيات دينية”، ما يشجع المتطرفين على تكرارها.
إلى جانب ذلك، تشنّ مؤسسات الاحتلال الأمنية والإدارية حربًا قانونية واقتصادية ضد الكنائس؛ حيث فرضت بلدية القدس ضرائب جديدة على المؤسسات الدينية رغم الاتفاقيات التاريخية التي تعفيها من الجباية، وجمّدت حسابات عدد من البطريركيات، كما شهدت السنوات الأخيرة تسريب عقاراتٍ كنسية لجمعيات استيطانية متطرفة، خصوصًا في باب الخليل وجبل صهيون، في محاولة لإحكام السيطرة على الحيّ المسيحي في البلدة القديمة، ويعتبر أبناء القدس هذه السياسات محاولة ممنهجة لإفراغ المدينة من سكانها الأصليين، عبر استهداف رموزهم الدينية والاقتصادية في الوقت نفسه.
وتُظهر الإحصاءات أنّ نحو ثلث المسيحيين الفلسطينيين غادروا الأراضي المحتلة خلال العقود الخمسة الأخيرة، الوجهات الأكثر استقطابًا هي الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، حيث الجاليات الفلسطينية القديمة التي توفر شبكات دعمٍ جاهزة.
دوافع الهجرة متعددة، لكنّها تلتقي في نقطتين مركزيتين؛ الاحتلال من جهة، والاختناق الاقتصادي من جهة أخرى، فالاحتلال جعل الحركة اليومية مقيدة، والحياة الاقتصادية شبه مشلولة؛ فالمجتمعات المسيحية تعتمد تاريخيًا على قطاعات السياحة والخدمات والحرف اليدوية، وهي قطاعات ضربها الحصار والانتفاضات المتكررة والإغلاقات؛ وعشرات الورش الصغيرة في بيت لحم وبيت ساحور أغلقت أبوابها، وفقد آلاف العمال وظائفهم منذ الانتفاضة الثانية، ولم تعد السياحة الدينية، التي كانت ركيزة اقتصاد بيت لحم، مصدر دخلٍ مستقرّ، بعد أن تحولت المدينة إلى سجنٍ محاط بالجدار، ومع تراجع فرص العمل وارتفاع الأسعار، باتت الهجرة بالنسبة لعائلات كثيرة وسيلة لتأمين المستقبل والتعليم لأبنائهم، لا مغامرةً طارئة.
ولعلّ إنقاذ هذا الوجود لا يحتاج إلى تضامنٍ موسمي، بل إلى فعلٍ سياسيّ وإنسانيّ يعيد للفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، حقهم الكامل في أرضهم وحريتهم وكرامتهم؛ فحين يُرفع الحصار، وتُزال الحواجز، وتُستعاد الأراضي المسلوبة، يمكن عندها أن يُستعاد أيضًا التوازن الطبيعي للمجتمع الفلسطيني بتنوّعه التاريخي. وإلى أن يتحقق ذلك، سيبقى المسيحيون في فلسطين – القلّة العددية والكثرة المعنوية – عنوانًا حيًا لصمودٍ يتجاوز الدين إلى جوهر القضية نفسها: الدفاع عن الإنسان في وجه آلةٍ تسعى لاقتلاع جذوره من التاريخ والجغرافيا معًا.



