عن فوز زُهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك
أولاً: يجسد هذا الفوز تصاعد الاستقطاب في المجتمع الأمريكي بين كتلتين:
الأولى، البيض الأنجلوساكسون البروتستانت، باعتبارهم الأكثرية القومية الحاكمة التي “تملك” الولايات المتحدة، والتي يشكّل ترامب تجسيدًا لتطلعاتها من خلال شعار “لنجعل أميركا عظيمة من جديد” (المعروف اختصارًا بـ«ماجا»)، وهو شعار لا ينفصل عن فكرة جعلها بيضاء ومسيحية بروتستانتية من جديد.
في مقابل هؤلاء يقف المهاجرون من مختلف الأعراق والخلفيات، الساعون إلى إعادة تشكيل القومية الأمريكية باعتبارها دولة لجميع المهاجرين الذين يمتلكون حق المشاركة في بنائها وتشكيل هويتها تمامًا كما فعل مؤسسوها الأوائل. وكما صعد ترامب من نيويورك، صعد ممداني منها أيضًا، وهو ما يؤكد حضور الكتلتين وقدرتهما على حشد أنصارهما، مع ميلٍ ديموغرافيٍّ لزيادة عدد المهاجرين بما يسمح لهم مستقبلًا بالترجيح العددي. لذلك يحرص ترامب وتياره على الحد من الهجرة بالقوة.
ثانيًا: كلتا الشخصيتين جسّدتا تحرّكًا تغييريًا ضد النخبة السياسية التقليدية في حزبيهما. فترامب أنشأ حركة “ماجا” من أطراف الحزب الجمهوري وفرضها عليه، فقبلها الحزب بوصفها وسيلةً للبقاء في الحكم لا قناعةً بمقولاتها. أما زهران ممداني ففاز بترشيح الحزب الديمقراطي رغم ميل نخبته إلى غريمه أندرو كومو. وكان فوزه بالترشيح أحد أبرز عناوين التغيير التي حققها، في إشارة إلى خطٍّ آخر من الصراع الداخلي في كلا المعسكرين ــ تيار البيض وتيار المهاجرين ــ ضد النخب التقليدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ثالثًا: يتقاطع في هذا الصراع بعدٌ طبقيٌّ ماديٌّ واضح؛ فترامب يمثل نخبة الصناعات الثقيلة والعقارات والنفط، ويميل إلى حماية رأس المال على حساب العاملين، مع تشجيع الاستثمار عبر خفض الضرائب على الأغنياء. في المقابل، يقف الحزب الديمقراطي إلى جانب نخبة الخدمات الكبرى: البنوك والتأمين والاتصالات، والتي تختلف مع ترامب تكتيكيًا. أما زهران ممداني فيحاول تمثيل العمال والمهنيين والحرفيين، والدعوة إلى خفض تكاليف المعيشة وفرض ضرائب تصاعدية تمسّ الأغنياء أكثر. بل يرى أنه لا ينبغي أن يكون هناك “بليونير” أصلًا، لأن هذا القدر من الثروة يعكس غياب العدالة الاقتصادية.
رابعًا: ينحدر زهران من عائلة صاغ الاستعمار وما بعد الاستعمار وعيها ووجودها. فوالده محمود ممداني من الأقلية الهندية التي جلبها الاستعمار البريطاني إلى أوغندا للعمل في مشاريع البنى التحتية والتجارة. كان مسلمًا جوجراتيًا في بيئةٍ يغلب عليها السود المسيحيون الكاثوليك والأنغليكان بعد الاستعمار، والوثنيون قبله. وقد واجهت تلك الأقلية سؤال الهوية بعد استقلال أوغندا عام 1963؛ إذ لم تكن محسوبة على المستعمِر الذي رحل، ولا مندمجة في هوية المجتمع المستعمَر من الأفارقة. فتوزع أفرادها بين الهجرة إلى بريطانيا للحاق بالمستعمِر المنسحب، أو العودة إلى الهند، أو البقاء في أوغندا ومحاولة المشاركة في تشكيل هويتها الجديدة.
تحت ضغط هذه الوقائع، اتجه محمود ممداني لدراسة الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية، وتخصص في دراسات ما بعد الاستعمار مقدّمًا أطروحات مهمة. أما والدة زهران فهي مخرجة أفلام هندية هندوسية هاجرت إلى الولايات المتحدة، وجعلت من الفجوة الثقافية بين المهاجر والمجتمع الأصلي محور اهتمامها، وتعرّفت إلى والده أثناء إعدادها بحثًا لأحد أفلامها.
زهران هو امتداد لهذا الخط من سؤال الهوية في عالم ما بعد الاستعمار، الذي تعامل مع البشر كمادةٍ استعمالية نُقلت واستُخدمت وفق حاجات الاستعمار واقتصاد السوق. لكنه ما يزال يحاول أن يعرّف نفسه إنسانيًا، لا كمادة فحسب، بل باعتباره كائنًا ذا دين وثقافة. وهو يحاول فعل ذلك في الولايات المتحدة – بوصفها مركزًا استعماريًا – من خلال التمسك بأطروحات التعدد والتنوّع، ما يجعل هذا التعدّد الهويّاتي لديه، بين كونه مسلمًا شيعيًا من أصل هندي وأمه هندوسية وزوجته مسلمة سنّية من دمشق، جزءًا من مؤهلاته، وتجسيدًا للمجتمع المهاجر الذي يسعى لتكريس التعدد في الهوية الأمريكية.
خامسًا: موقف زهران من غزة وفلسطين يجسّد رفض فكرة تفوّق عرق أو دين يمنح صاحبه مركزية تتيح له اضطهاد الآخرين، ويرفض خيارات النخبة المهيمنة وانحيازاتها التقليدية الظالمة القائمة على تشابك المصالح. كما يرفض التعريف الغربي المركزي للقومية باعتبارها فرض هوية الأكثرية على حساب الأقلية. وهذا يعكس، هو وقاعدته الانتخابية، رفض تعريف القومية الأمريكية كقومية للبيض على حساب المهاجرين، وسعيًا لإعادة تشكيلها باعتبارها قوميةً للجميع، بعيدًا عن منطق القتل والإبادة والتمييز.
في ذلك، يتقمص زهران الحلّ الذي يطرحه والده محمود ممداني لقضية فلسطين، والقائم على تجاوز هويتي المستعمِر والمستعمَر نحو هويةٍ جديدة تشمل الجميع عبر نضالٍ سياسي، على غرار تجربة جنوب أفريقيا. ورغم ما تتعرض له هذه الأطروحة من نقد، فإن الابن زهران يحاول تجسيدها في السياق الأمريكي.
الخلاصة:
يضع فوز ممداني نفسه في قلب صراع الهوية المتصاعد داخل المجتمع الأمريكي، حيث يقف المهاجرون في مواجهة مركزية البيض، ويصطفّ ــ للمفارقة ــ في جبهةٍ واحدة مع ترامب ضد النخب السياسية التقليدية بوصفهما ممثلَين لقوى تغييرية. كما يواجه مصالح رؤوس الأموال الكبرى دفاعًا عن العمال والطبقات الوسطى، ويصبح جزءًا من الأزمة العالمية المزمنة التي أطلقها الاستعمار الغربي حين دمّر البنى والهويات القديمة، وفتح أتونًا من الصراعات لإعادة بناء هوياتٍ قومية جديدة، دون أن يصل أحد إلى مخرجٍ مستقر حتى الآن.
وأمام تحدياتٍ كهذه، قد يكون مصير زهران ممداني واحدًا من أربعة: الاغتيال في عنفٍ سياسي يغذّيه هذا الاستقطاب، أو إفشال مشروعه بتحالف المصالح المناوئة، أو اصطدام مشروعه بصعوبة بناء هويةٍ متعددة في دولةٍ تأسست على الإبادة والعبودية، أو نجاحه في فتح نافذةٍ نحو واقعٍ سياسي جديد يصعب التنبؤ بشكله منذ الآن.



