لا جدال في أن إسرائيل تستخدم ذريعة جثث أسراها في قطاع غزّة كـ"مسمار جحا" لتبرير استمرار عدوانها وحصارها وتجويعها أكثر من مليوني إنسان فيه. هو سلوك كولونيالي تقليدي، عنصري فج وبغيض، تماهت الحركة الصهيونية معه عبر فرية التفوّق والاستثناء العرقي اليهودي. المشكلة هي حين يسقط ضحايا مزاعم تفوّق عرق أو دين ما في شباك الفِرية نفسها، أو يصبحون مروّجين لها ومرسّخين أركانها. ترتبط هذه المسألة بأربعة أنساق أساسية: "الإنسانية الانتقائية"، "الأخلاقية الانتقائية"، "الداروينية الاجتماعية"، و"النظرة الدونية للذات". يمثّل كل نسق من هذه الأنساق عطباً إنسانياً وتردّياً أخلاقياً كارثياً وخطيراً، ذلك أنها تمثل تمهيداً لارتكاب جرائم بحق الإنسانية والإبادة الجماعية، كما أثبتت تجارب التاريخ والواقع المعاش، وجديدها أخيراً ما يجري راهناً في قطاع غزّة.
في الخلفية هنا استمرار إسرائيل في ما تصفها "عقوبات" على قطاع غزّة رغم مرور ثلاثة أسابيع على اتفاق وقف إطلاق النار، والذي سلمت بموجبه المقاومة الفلسطينية 20 أسيراً إسرائيلياً حيّاً، وجثث 16 أسيراً من أصل 28، دفنتهم إسرائيل نفسها تحت الأنقاض في أثناء عدوانها الوحشي على قطاع غزّة. ورغم أن المقاومة الفلسطينية لا تألو جُهداً في محاولة إيجاد جثث القتلى الإسرائيليين، إلا أنها تواجه تحدّيات صعبة، ذلك أن إسرائيل مسحت معالم القطاع بشكل شبه كامل، وحوّلته إلى ركام، كما أنها قتلت كثيرين من الآسرين أنفسهم. وهذا لا تقوله المقاومة الفلسطينية وحدها، بل أيضاً منظمات دولية متخصّصة، كالصليب الأحمر وخبراء دوليين. لكن هذا لا يعني شيئاً لإسرائيل، فهي تبحث عن أي مبرّر للمضي في جرائمها بحق المدنيين الغزّيين، والكل يعلم أنها لا تعنيها جثث أسراها أصلاً، وهي من قتلت معظمهم عبر القصف الجنوني الذي شنّته عامين في قطاع غزّة. أما وصمة العار الأكبر في جبين الإنسانية ككل فتتمثل في الرضوخ للسردية الإسرائيلية والأميركية التي تُعلي من إنسانية جثث الإسرائيليين، وتتناسى أن ثمَّة أكثر من عشرة آلاف مدنيٍّ فلسطيني مدفونون تحت الأنقاض نفسها التي يقبع تحتها الأسرى الإسرائيليون بفعل الوحشية البربرية لدولتهم. إلا أن لا بواكي لهؤلاء الآلاف من الفلسطينيين، ولا تأبه الفرق الدولية التي دخلت بمعدّات ثقيلة للبحث عن جثث الأسرى الإسرائيليين إلى استخلاص جثامينهم، وإغلاق جرح غائر لدى ذويهم، ودفنهم بطريقة لائقة.
تطلّب تبرير المعايير المزدوجة والدوْس على منظومات القيم الإنسانية والأخلاقية والقانونية تقديم إطار "أخلاقيٍّ" بديل لا يمتاز بالانتقائية فحسب، بل بالبراغماتية كذلك
تسبغ الولايات المتحدة، بكثير من الوقاحة، الإنسانية على جثث الأسرى الإسرائيليين، في حين تنزعها عن الفلسطينيين. عندما تستمع إلى المسؤولين الأميركيين، بدءاً من الرئيس دونالد ترامب نفسه، وإلى الإعلام الأميركي، وهم يتحدّثون في هذا الموضوع تُصاب بالغثيان. لا ينطلق هؤلاء في التعاطف مع الضحايا من حيث كونهم بشراً، بقدر ما أنهم ينطلقون من مقاربة متوحّشة وكولونيالية. يلتقي المسؤولون الأميركيون بعائلات الأسرى الإسرائيليين، الأحياء منهم والأموات، يهدّدون الفلسطينيين إن لم تجر إعادتهم جميعاً، في حين لا يتردّد الإعلام الأميركي في ممارسة الانحطاط الأخلاقي والمهني، وهو يؤنسن الأسرى الإسرائيليين وعائلاتهم، في حين يتجاهل كلياً إنسانية ومعاناة أكثر من 11 ألف أسير فلسطيني في معتقلات إسرائيل، وأكثر من عشرة آلاف آخرين تحت ركام غزّة التي دمّرتها إسرائيل بسلاح وغطاء ديبلوماسيٍّ أميركي. تلكم هي "الإنسانية الانتقائية" التي لا تنظر إلى الناس أنهم سواسية، ولا ترى في الإنسانية جذر التعادل والتكافؤ بين الجميع، بل إنها تفرّق بينهم بناء على العرق والدين والانتماءات الثقافية والجغرافية والسياسية.
تستبطن "الانتقائية الإنسانية" نظرية "الداروينية الاجتماعية"، والتي تفترض مفاهيم "الانتقاء الطبيعي" والبقاء للأصلح، وعماد هذه النظرية العنصرية المتوحّشة أن المجتمعات البشرية كالكائنات الحيَّة تخضع لقوانين "الانتقاء الطبيعي"، حيث البقاء للأقوى، في حين يكون مصير الضعفاء السحق والتهميش. وُظِّفت هذه النظرية تاريخياً، ولا تزال، في تبرير العنصرية، على أساس أنَّ ثمَّة أعراقاً "أكثر تطوّراً" من أعراق أخرى، وفي تسويغ الكولونيالية، لا على أرضية مزاعم تطوير الشعوب المتخلفة فحسب، بل وكذلك في ترويج زعم أن الشعوب القوية تستحق السيطرة على الشعوب الضعيفة، فضلاً عن تقديمها مُفَسِّراً للتمايز الطبقي والفروق بين البشر بذريعة تفاوت قدرات "التكيّف" بين الناس. دع عنك أن "الداروينية الاجتماعية" كانت الأرضية الأساس لارتكاب جرائم الإبادة الإنسانية، ماضياً وحاضراً.
تسبغ الولايات المتحدة، بكثير من الوقاحة، الإنسانية على جثث الأسرى الإسرائيليين، في حين تنزعها عن الفلسطينيين
يرتبط بذلك مفهوم "الانتقائية الأخلاقية"، إذ يتطلّب تبرير المعايير المزدوجة والدوْس على منظومات القيم الإنسانية والأخلاقية والقانونية تقديم إطار "أخلاقيٍّ" بديل لا يمتاز بالانتقائية فحسب، بل بالبراغماتية كذلك، أو ما يُعرف بـ"البراغماتية الأخلاقية"، والتي ترى أن القيم الأخلاقية ليست ثابتة ولا مطلقة، ولا هي نهائية وأزلية، بل إنها في حالةٍ من سيرورة التطوير والتعديل، والبوصلة في ذلك "المنفعة الواقعية". ومن مفارقات ذات دلالة هنا أن فلسفة "البراغماتية الأخلاقية" منتج أميركي، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وارتبطت بفلاسفة مثل جون ديوي وويليام جيمس وتشارلز بيرس، وإنْ كانت ممارستها عملياً سابقة على ذلك بقرون طويلة.
ما سبق كله في كفّة ومسألة "النظرة الدونية للذات" في كفّة أخرى. لا يملك المرء إلا أن يشعر بالقرف وهو يتابع بعض دوائر سياسية وثقافية وإعلامية عربية، بما في ذلك فلسطينية، وهي تكرّر المنطق والمزاعم الإسرائيلية والأميركية في ما يتعلق بتعمّد المقاومة الفلسطينية إخفاء جثث الأسرى الإسرائيليين. هؤلاء هم أحد أهم أسباب تجرّؤ إسرائيل وأميركا، وغيرهم ممن ينتمون إلى عوالم التوحش البشري، على ارتكاب جرائم الإبادة بحقّنا من منطلق أننا، نحن العرب والمسلمين والشعوب "العالمثالثية"، أقل إنسانية وقيمة من الإنسان الأقوى والأصلح والأكثر قدرة على التَكَيّف. المسكونون بـ"النظرة الدونية للذات" لا يقلون إجراماً وتوحشاً عن المجرمين الأصليين، ولكنهم أكثر نذالة وسفالة، إذ إنهم يبرّرون الجريمة بحقّ أنفسهم وأهاليهم وشعوبهم.



