أخبرني صديق أن ابنته الصغيرة فرحت كثيرًا بتوقف الحرب في غزة، فطلبت منه الذهاب مع جديها لقطف الزيتون. أخبرها أن الأمر صعب للغاية، فاندهشت وسألته: "لماذا؟ ألم تنتهِ الحرب؟". أخبرها صديقي أن الحرب في غزة قد انتهت، لكن في الضفة الغربية، لا يزال المستوطنون يضايقون الفلسطينيين ويمنعونهم من الوصول إلى أراضيهم. لا تزال الحواجز تعزل المدن والقرى، ولا يزال الجيش الإسرائيلي يُداهم ويقتل ويعتقل الفلسطينيين ويحمي المستوطنين.
هذا حلم صغير يتمناه أطفال فلسطين، لكن حياتهم تحولت إلى كابوس بسبب سياسة الفصل العنصري الإسرائيلية في الضفة الغربية.
لقد غيّرت إسرائيل الواقع في الضفة الغربية عمدًا، واتبعت مسارات مختلفة لترسيخ سيطرتها ومحو الوجود الفلسطيني السيادي.
لا حياة!
كفلسطيني مقيم في رام الله، تواجه تحديات هائلة في إنجاز أعمالك اليومية. ففي الصباح، يُعدّ الذهاب إلى العمل أو حتى توصيل أطفالك إلى المدرسة صراعًا ضد الحواجز العسكرية الإسرائيلية والبوابات الحديدية التي تمنع الفلسطينيين من التنقل بحرية، وهو أمر لا يمكن تصوره في أي بلد آخر.
ويُشكّل الليل تحديًا كبيرًا آخر. قد يتعرض منزلك لمداهمات غير مبررة، أو قد تكون في منطقة تتعرض لاقتحام شامل، فتختنق أنت وعائلتك بقنابل الغاز المسيل للدموع رغم أنك لا تُشكّل أي تهديد للجيش الإسرائيلي.
إن الحق في حياة طبيعية في أبسط الظروف - العبادة، وقضاء وقت ممتع مع الأصدقاء والعائلة، والتنقل بحرية، وحتى التنزه والرحلات والسفر - كلها مصادرة من الفلسطينيين في الضفة الغربية بقرار إسرائيلي، وهو ليس عبثًا، بل هو تطبيق لسياسة تهدف إلى خنق أي فرصة حقيقية للعيش هنا.
إن انتشار النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية يحمل في طياته مخاطر غير معقولة. مجموعات مسلحة من الشباب دون سن الثامنة عشرة، مدفوعة بكراهية متأصلة وأيديولوجية استيطانية توسعية، تُعرّض حياتك وحياة عائلتك للخطر في أي لحظة تفكر فيها بالسفر بين المدن، وهي خطوة أصبحت ضرورة حتمية، ليس فقط للزيارات العائلية أو المناسبات الخاصة.
بينما يُكرّس الجيش الإسرائيلي كل طاقته وقدراته لحماية المستوطنين وتسهيل حياتهم في المستوطنات والبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية؛ يتحول الفلسطيني، مالك الأرض، إلى غريب، يبتكر سبل البقاء، في ظل الحد الأدنى من الحقوق والظروف والفرص.
ولتحقيق هذا النظام المتكامل - نظام من الجنود الذين يفرضون القيود، والمستوطنين الذين يعرقلون كل أمل - كان لا بد من فرض مجموعة من الممارسات اليومية كقتل المدنيين، وتخريب وحرق الممتلكات والمحاصيل الزراعية، وإطلاق النار على المارة، وإغلاق الطرق. إنه العنف الذي لا يُطاق لتغيير الواقع وخلق نواة دولة المستوطنين.
تُشكّل الحرب على الموارد الطبيعية عبئًا إضافيًا على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية. فقد صادرت إسرائيل جميع موارد المياه بذرائع مختلفة. حتى البحر الأبيض المتوسط أصبح محظورًا علينا، بينما أطفالنا لا يعرفون حتى أن لدينا بحرًا. البحر الميت مليء بالمنتجعات الإسرائيلية فقط.
الغابات والمراعي وقمم الجبال والأنهار الصغيرة والمحميات الطبيعية والغاز الطبيعي وحتى النفط، جميعها صودرت وأصبحت الآن محظورة على أصحاب الأراضي الفلسطينيين.
ويُعدّ تقليص كميات المياه الموزعة على مدن الضفة الغربية وسيلة إسرائيلية أخرى لاقتلاع الوجود الفلسطيني. كما أن السيطرة على حركة الفلسطينيين بإغلاق معبرهم الحدودي الوحيد إلى العالم الخارجي عبر الأردن جزء من هذه الاستراتيجية. هذه الإجراءات ليست مجرد إجراءات أمنية كما تدّعي إسرائيل، بل هي خطة ممنهجة ستُشكّل واقعًا بلا سيادة فلسطينية.
نحن نتحدث عن آثار وجوانب عديدة للاحتلال أثرت سلبًا على تفكير أجيالنا في السلام والازدهار، وأصبحت جسرًا لفرض المزيد من السياسات على حساب كرامتنا ودولتنا ذات السيادة الموعودة.
عقلية السيطرة
تعتبر إسرائيل الفلسطينيين مجتمعات معزولة بلا هوية، بل فرضت اللغة العبرية على بطاقات هوياتهم لإذلالهم وتدمير وطنهم الروحي.
بعد أن عزلت غزة عن الضفة الغربية عام 1993 بموجب اتفاقيات أوسلو، عمدت فورًا إلى عزل القدس عن مدن الضفة الغربية الأخرى بإقامة حواجز عسكرية أولًا، ثم جدار الفصل العنصري. لكن هذا لم يوقف سياسة الفصل، بل عزلت مدن الضفة الغربية عن بعضها البعض بحواجز عسكرية وبوابات حديدية وأبراج عسكرية على مداخلها لحشر الناس فيها لصالح خطة الضم.
بإغلاق مداخل القدس وعزلها تمامًا منذ عام 2002، حُرم الفلسطينيون من الوصول إلى المدينة، وبالتالي من حقهم في العبادة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، نتيجةً لقطع امتدادها الجغرافي الطبيعي مع الضفة الغربية. زار عشرات الآلاف من الفلسطينيين في الضفة الغربية القدس آخر مرة منذ أكثر من عشرين عامًا، بينما لا يعرف جيل كامل من أبنائهم عنها شيئًا إلا من خلال الصور والقصص التي رواها آباؤهم وأجدادهم.
هذا هو الواقع الراهن هنا في عام 2025، بينما تُعقد مؤتمرات السلام، وتتواصل موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية. إلا أن إسرائيل، على مدار عقود من الاحتلال، رفضت الحلول السياسية، وانتهجت سياسة السيطرة على الأرض والشعب والمقدرات والموارد.
بدلًا من قبول الحل السياسي، اتخذت إسرائيل إجراءات أكثر جرأةً بموافقتها على مشروع E1 لتوسيع القدس، وفرض سيادتها على الضفة الغربية بتقسيمها إلى قسمين، بل وقوّضت حل الدولتين.
توقفت الإبادة الجماعية، لكن الاحتلال لم ينتهِ، فالقدس ما تزال تحت التهويد، والضفة الغربية تخضع للضم، وغزة ما تزال تحت الحصار بمشهد دموي.
كل يوم، ترتعد الإنسانية والكرامة أمام حجم المعاناة، كل يوم فرصة لتحقيق أحلام أطفالنا بتطبيق القانون الدولي وتحقيق السلام الحقيقي الذي يسمح لهم بعيش طفولتهم وبناء مستقبلهم في دولة مستقلة، لا عبر الوعود الوهمية والسراب.
يبحث الفلسطينيون عن الأمل والرؤية وآفاق الحياة والاستقرار، لكن الاحتلال لم يترك لهم خيارًا.



