شبكة قدس الإخبارية

وقف الحرب ومحاولة "إسرائيل" تقديم نفسها من جديد

Screenshot 2025-10-09 143011
محمُود الرنتيسي

كان أحد بنود المقترح الأميركي الذي قدم إلى حركة المقاومة الإسلامية حماس عندما تم قصف وفدها المفاوض الذي ضم عددا من قيادات الحركة في الدوحة، وهو يتدارس بنود هذا المقترح، هو إعادة تعريف حركة حماس، ولكن في الحقيقة وللمفارقة أن عملية إعادة التعريف كانت تجري بشكل وباتجاه جديد في الطرف المقابل، وهي دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها.

وبعد مواقف حركة حماس السياسية والميدانية، وتقديم نموذج جديد للمقاومة والتفاوض حتى الجولة الأخيرة في شرم الشيخ، يبدو أن حماس مستمرة في تثبيت نفسها في المعادلة، وتثبيت حضورها السياسي، بينما ستستمر عملية إعادة تعريف إسرائيل سواء توقفت الحرب بناء على الاتفاق الأخير، أو استؤنفت.

تاريخ عملية إعادة التعريف

على مدار تاريخ كيان دولة الاحتلال الإسرائيلي، كان هناك مطالبات بإخضاع دولة الاحتلال الإسرائيلي لعملية إعادة تعريف، وكانت هذه المطالبات من عرب وفلسطينيين لصالح تعريف الاحتلال بوصفه قوة استعمارية لا بد أن ترحل، ومن إسرائيليين وصهاينة أرادوا إدخال إسرائيل في حالة عملية إعادة تعريف مستمرة لصالح توسعها وزيادة قوتها.

ولا أريد أن أدخل هنا في عملية إعادة التعريف من جانب إسرائيليين حاولوا إعادة التعريف لصالح تنامي المشروع الاستعماري الإسرائيلي نفوذا، أو الذين انطلقوا من الأبعاد الأيديولوجية في مشروع الدولة اليهودية، ولكن سأركز على عملية إعادة تعريف إسرائيل التي تخدم اضمحلال وهزيمة هذا الكيان، إذ لم تخلُ فترة من الفترات منذ نشوء الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 إلا وكان هناك من يطالب بهذا المطلب.

وقد كتب مؤرخون ومفكرون مثل غسان كنفاني، وإدوارد سعيد، وعبدالوهاب المسيري وغيرهم، داعين لتعريف إسرائيل بكونها كيانا وظيفيا استعماريا، وكتب مؤرخون فلسطينيون كثر في هذا، سياق الأدبيات السياسية للنضال الفلسطيني، وعلى المسار العملي أكد قادة النضال والمقاومة الفلسطينية، مثل الحاج أمين الحسيني، وياسر عرفات، وخليل الوزير، وجورج حبش، وأحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي في أقوالهم وخطاباتهم على فكرة تعريف إسرائيل كدولة احتلال استعماري.

وفي الحقيقة ورغم ما سبق بدت دولة الاحتلال الإسرائيلي في حالة صعود، فيما يتعلق بعملية إعادة التعريف في نهاية القرن العشرين، وظهر ذلك في عدة مؤشرات، مثل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة إلغاء أن الصهيونية أحد أشكال العنصرية في ديسمبر/كانون الأول 1991، وتحديدا منذ اتفاق أوسلو 1993 بدت دولة الاحتلال أقرب إلى تشكيل بيئة تخدم عملية إعادة التعريف التوسعية، وظلت مستمرة، وبدت في ذروة نجاحاتها مع توقيع اتفاقيات أبراهام 2020.

ولكن مع حرب غزة حصلت نقطة تحول جوهرية حادة في عملية إعادة التعريف، حيث تجمدت عملية إعادة التعريف التي أرادتها دولة الاحتلال، وانطلقت عملية إعادة تعريف مختلفة تماما تلك المرتبطة بسيناريو الاضمحلال بدلا من الهيمنة والصعود حتى لو بدت يدها باطشة في أكثر من جبهة، ولم تكن عملية إعادة تعريف إسرائيل السلبية أكثر حضورا منها كما هي اليوم بعد طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما تبعه من تطورات وتداعيات.

بعد أسابيع قليلة من 7 أكتوبر/ تشرين الأول بدأ اسم دولة الاحتلال الإسرائيلي يرتبط بالوحشية ومن ثم بالإبادة الجماعية، وبعد قصف الدوحة كان ملحوظا استخدام العديد من الدول ومنها قطر وباكستان وغيرهما، وصفَ "الدولة المارقة" "Rogue State"، ووصم دولة الاحتلال الإسرائيلي به، حيث وصف رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني إسرائيل بالدولة المارقة، وقد قال مبعوث باكستان لدى الأمم المتحدة عاصم افتخار أحمد، إن "إسرائيل دولة مارقة غير مسؤولة وترتكب أسوأ أنواع الإرهاب منذ عقود في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة".

وكان مصطلح الدولة المارقة شائعا في الخطاب الأميركي، كعبارة عن عقوبة ووصمة بحق الدول التي تريد واشنطن الضغط عليها، وكانت الولايات المتحدة تصنف به، من منظورها، الدول المعادية للسلام والتي تتبع سياسات مغايرة للمجتمع الدولي.

وهذا الوصف كان يطلق على الدول التي تشكل خطرا إستراتيجيا بالنسبة للولايات المتحدة. وقد استخدم معظم الرؤساء الأميركان هذا الوصف ضد خصومهم سواء الاتحاد السوفياتي أو إيران أو كوريا الشمالية، ولكن هذا المصطلح اليوم بات لصيقا بأهم حليف للولايات المتحدة، وهو إسرائيل.

إضافة لمصطلح الدولة المارقة نجد أيضا مصطلح الدولة المنبوذة "Pariah State"، وهو يعني الدولة التي تعاني من عزلة دبلوماسية وازدراء أخلاقي واسع النطاق على المستوى الدولي؛ بسبب خرقها القانون الدولي وارتكابها جرائم الحرب وخلال عامي 2024 و2025 نجد أن هذا الوصف بات يستخدم بكثرة في وصف دولة الاحتلال الإسرائيلي.

تكمن الأهمية هنا أن الدول والكيانات لا تصبح دولا مارقة أو منبوذة بسهولة، بل تمر هذه العملية بتعقيدات وتأخذ فترات زمنية طويلة، ولكننا نجد هنا أن عملية التحول في النظرة لدولة الاحتلال الإسرائيلي من دولة ديمقراطية ومتقدمة إلى دولة مارقة ومنبوذة تتم بسرعة كبيرة نسبيا وأكبر من قدرتها على مواجهة هذه العملية.

عملية إعادة التعريف

عندما ننظر إلى عملية إعادة التعريف لكيان ما فهي تعني نزع وإضافة خصائص جديدة ليغدو مختلفا عن الشكل الذي كان يقدم نفسه به، أو الذي تم تعريفه أو تصوره به.

وتشمل هذه العملية، عادة، تشكيكا في شرعية هذا الكيان وتغيرا في هويته، وكذلك الحال تشمل أزمات وانقسامات وضغوطا داخلية وخارجية عديدة. ولهذا فإن إعادة التعريف تشمل إعادة النظر في المفاهيم والأطر، ومن ثم إعادة تفسيرها في سياقات جديدة.

وعلى سبيل المثال فإن أهم هذه المفاهيم والأطر، هي الشرعية الدولية، والسيادة والعضوية في النظام الدولي، وهذه كلها تجري لها عملية إعادة تفسير في ظل حرب الإبادة وانتهاك الاتفاقيات، والإصرار على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

ولعل الدعوات المتزايدة لتعليق أو طرد إسرائيل من الأمم المتحدة وفق المادة 6 من ميثاق الأمم المتحدة- بناء على اتهامها بانتهاك الميثاق وارتكاب الجرائم في غزة، أو إذا استمرت في رفض تنفيذ قرارات الشرعية الدولية- تعد من أبرز الأمثلة على ذلك، وتحظى هذه الدعوات بدعم واسع، وتؤكد على عزلة دولة الاحتلال المتزايدة، وتمثل تطورا نوعيا ليس في صورتها فحسب بل في عملية إعادة تعريفها.

وكما هو معلوم فإن عملية إعادة تعريف كيان سياسي إذا ما احتوت بشكل رئيس على تشكيك في شرعيته وهويته ومشروعيته الأخلاقية بدرجة أساسية وترافق مع ذلك وصمه بصفات العنصرية والعدوانية وارتكاب الجرائم، فإن هذا يعيد تأطير هذا الكيان بطريقة جديدة.

وقد فتحت حرب غزة المجال واسعا لإثارة الأسئلة حول شرعية كيان دولة الاحتلال الإسرائيلي وأظهر الصورة الحقيقية التي فتحت الآفاق والأذهان لإعادة النظر في المبادئ والخلفية التي تأسس عليها هذا الكيان.

وحاول كثيرون البحث عن إجابات لسؤال "كيف بدأ هذا الظلم؟"، وقد كتب كثيرون عن أن طوفان الأقصى كشف الأسس الاستعمارية لإسرائيل، وكشف خديعة السردية التأسيسية لدولة إسرائيل، ولعل الانتشار السريع لشعار فلسطين من النهر إلى البحر في العواصم الغربية بكل قوة، أحد الدلائل على هذا الأثر.

وبعد التشكيك في الهوية والتأسيس إذا ما انتقلت عملية إعادة التعريف إلى الإجراءات العازلة ثانيا وتعاملت الأطر القانونية والحقوقية مع الوصف الجديد ضمن إجراءات العزل والعقوبات، فإن الأمور ستكون أكثر اقترابا من المرحلة الثالثة، وهي تفكيك أسس القوة، وهذه تترافق مع صراعات اجتماعية واهتزازات قوية في العقد الاجتماعي لهذا الكيان. وهذا واضح بشدة أنه حاصل في حالة دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث هناك عقوبات متزايدة دبلوماسية وتجارية وثقافية إضافة إلى تفكك متزايد في النسيج الاجتماعي.

مقاومة إعادة التعريف

بالرغم من الزخم الضخم والسريع في تكونه لعملية إعادة تعريف دولة الاحتلال الإسرائيلي، ما زالت دولة الاحتلال تعمل على مقاومة عملية إعادة التعريف في مجالها السلبي، وتعتمد في هذا السياق على عدة أمور، منها إبطاء عملية إعادة التعريف عبر ممارسة التضليل والبروباغندا، وشراء المؤثرين، كما ظهر من تأكيد نتنياهو على أهمية الدفاع عن إسرائيل من قبل المؤثرين في تطبيقَي تيك توك، وإكس.

أما المسار الثاني، فهو في الاعتماد على الحلفاء الأقوياء، وقد ادعى نتنياهو قبل أسبوع من الآن بعد لقائه ترامب والذي استعرض فيه الأخير خطته المكونة من 20 بندا لوقف الحرب، أنه نجح في عزل حماس، وجعل العالم يضغط عليها لقبول الشروط الإسرائيلية لوقف الحرب.

وقال نتنياهو بوضوح: "بدلا من أن تعزلنا حماس قلبنا الطاولة وعزلناها، وإن العالم أجمع بما في ذلك العالم العربي والإسلامي يضغط على حماس لقبول الشروط التي وضعناها مع الرئيس ترامب".

وتكمن الأهمية هنا في الكلمة الأخيرة، وهي: ترامب، إذ توضح اعتماد دولة الاحتلال الإسرائيلي على توظيف تحالفها مع قوة عظمى مثل الولايات المتحدة في منع تحقق العزلة، وبالتالي منع اكتمال عملية إعادة التعريف.

ولكن حتى في هذه النقطة فإن ما صدر عن ترامب من تصريحات- بعد رد حماس الإيجابي على مقترحه، بأن إسرائيل لا يمكنها أن تحارب العالم كله- يؤكد أن لدعم الولايات المتحدة حدودا، وهذه نقطة مهمة تؤكد هي وشواهد أخرى مثل تراجع دعم إسرائيل بين الجمهوريين، على بدء التغيير في المسار الثاني.

عمليتا إعادة تعريف

إن دولة الاحتلال الإسرائيلي كانت أيضا قبل حرب غزة وخلالها في عملية إعادة تعريف مختلفة لهويتها كدولة يهودية، وقد رأينا قانون القومية في 2018، عندما قدمت نفسها، على أنها دولة الشعب اليهودي، كما كانت تعيد تعريف حدودها عبر ضم الضفة والقدس والتوسع في الاستيطان، وإنتاج واقع جديد باحتلال أراضٍ من دول أخرى.

ومع حرب غزة أصيبت دولة الاحتلال بسعار وتصرفت بارتباك ناتج عن الرغبة في تعويض الردع، ففتحت جبهات عديدة في سوريا، ولبنان، وإيران، واليمن، إضافة لغزة، وعرّفت ذلك بأنه من ضمن عملية إعادة التعريف، والتغيير للمنطقة ككل.

وعند هذه النقطة وبالتأكيد على مسار إعادة التعريف الذي كانت تقصده دولة الاحتلال والذي أرادت أن يخدم مصالحها ونفوذها، لا بد من التأكيد على مفهوم إستراتيجي، وهو أن حالات الانتقال إلى مجال جديد يجعل البنى في أضعف حالاتها، وهذا مفهوم عسكري حتى في حركة الجيوش، كما يقول كلاوزفيتز إن الجيوش تكون في أضعف حالاتها عند عملية الانتقال، كما أن الحالة التي تتولد عن إعادة عمليات التنظيم تكون لحظة محفوفة بالمخاطر.

وبالتالي أصرت دولة الاحتلال في هذا التوقيت الخطير على مسار إعادة التعريف من وجهة نظرها، بينما هنالك زخم متصاعد عالميا يسعي لعملية إعادة تعريف مختلفة ترتبط بمسار اضمحلالي.

ويبدو أن ديناميكيات هذا المسار ستظل تتفاعل بعد ما حدث في حرب غزة بغض النظر عن سلوك إسرائيل بعد ذلك.