متابعة قدس: تتواصل في مدينة شرم الشيخ المصرية واحدة من أهم جولات التفاوض منذ اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقد اكتسبت هذه الجولة خصوصيتها لكونها الأولى التي تدور حول خطة سياسية شاملة تحمل توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وليست مجرد محادثات إنسانية أو عسكرية محدودة.
الخطة التي أعلن عنها ترامب رسميًا في 15 أيلول/سبتمبر 2025، جاءت بعد أشهر من مشاورات أمريكية–عربية–إسرائيلية، وصيغت على شكل “خطة من 21 نقطة” تتضمن مراحل متدرجة تبدأ بتبادل الأسرى ووقف العمليات العسكرية، وتمتد إلى قضايا أوسع مثل الانسحاب من القطاع، وترتيبات مستقبلية لإدارته، ونزع السلاح، وإدخال قوة مراقبة دولية. ورغم أن الإعلان قوبل برفض أولي من المقاومة، فإن قبول عدد كبير من الدول العربية والإسلامية بالخطة، بما في ذلك دول طالما اعتبرت داعمة لحماس مثل قطر وتركيا، شكّل عنصر ضغط على الحركة للتعامل مع المقترح.
في 20 أيلول/سبتمبر 2025، أعلن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو موافقته المبدئية على الخطة بعد أن “أدخلت عليها تعديلات جوهرية”، على حد وصفه، لتتناسب مع الشروط الإسرائيلية، وأهمها عدم الالتزام بجدول زمني للانسحاب، والإصرار على نزع سلاح المقاومة، واشتراط إشراف دولي أو وصاية على غزة. في المقابل، أعلنت حركة حماس في بيان رسمي بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر موافقتها على عدد من البنود، أبرزها تبادل الأسرى ووقف الحرب، لكنها شددت على ضرورة التفاوض حول الانسحاب الكامل، وضمانات وقف العدوان، ورفضها المطلق لنزع السلاح أو فرض وصاية دولية.
تخوض حماس هذه المفاوضات تحت وقع ضغوط غير مسبوقة. فالوضع الإنساني في غزة بلغ مستويات كارثية، مع استشهاد ما يزيد على 70 ألف فلسطيني منذ بدء الحرب وفق تقديرات منظمات دولية، وتهجير نحو مليوني إنسان داخل القطاع. هذا الواقع يفرض على الحركة البحث عن أي صيغة توقف الحرب وتفتح الباب أمام الإغاثة وإعادة الإعمار.
إلى جانب المأساة الإنسانية، تراجعت جبهات الإسناد التي كانت تشكل رافعة معنوية وعسكرية للمقاومة. أما على المستوى السياسي الفلسطيني، فقد اتخذت السلطة مواقف أقرب إلى واشنطن والاحتلال، حيث أعلن الرئيس محمود عباس في خطاب 28 أيلول/سبتمبر أن “الخيار الواقعي الوحيد هو القبول بخطة ترامب كأساس للتسوية”.
المشهد العربي لم يكن أفضل حالًا. ففي قمة القاهرة في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2025، أيدت جامعة الدول العربية بالإجماع الخطة الأمريكية، وهو ما اعتبره مراقبون رضوخًا للضغط السعودي–المصري. حتى أن دولًا مثل قطر وتركيا، اللتين لطالما وفرتا دعمًا سياسيًا لحماس، أعلنتا بشكل علني تأييدهما للخطة باعتبارها “مخرجًا واقعيًا”.
في المقابل، تواجه "إسرائيل" ضغوطًا داخلية وخارجية متعاظمة. فمنذ صيف 2024، أخذت المظاهرات الأوروبية ضد الحرب بالتصاعد، لكن في أيلول/سبتمبر 2025 بلغت ذروتها مع مسيرات ضخمة في لندن وباريس وبرلين رفعت شعارات “أوقفوا الإبادة” و”الاعتراف بفلسطين الآن”.
إلى جانب ذلك، تهدد أساطيل كسر الحصار مكانة إسرائيل الدولية، وكان آخرها “أسطول الصمود” الذي انطلق من إيطاليا في آب/أغسطس 2025 وجرى اعتراضه بالقوة، ما أثار أزمة دبلوماسية مع مدريد وأوسلو بعد اعتقال متطوعين من إسبانيا والنرويج. في السياق نفسه، تتوالى الاعترافات الدولية بدولة فلسطين: ففي 20 أيلول/سبتمبر أعلنت السويد والدنمارك والبرتغال اعترافها رسميًا بالدولة الفلسطينية، تبعها البرلمان الكندي بخطوة مماثلة في 2 تشرين الأول/أكتوبر.
داخليًا، يشكل ملف الأسرى عبئًا ثقيلًا على نتنياهو، إذ يقود أهالي الأسرى منذ بداية أيلول/سبتمبر احتجاجات يومية في تل أبيب والقدس، مطالبين بإتمام صفقة عاجلة مع حماس. ويضاف إلى ذلك ضغط واشنطن، إذ يسعى ترامب إلى تسجيل اختراق سياسي يقدمه كإنجاز دبلوماسي.
رغم هذه الضغوط، فإن التوصل لاتفاق ليس أمرًا مضمونًا. "إسرائيل" لا تزال تصر على المضي في تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة (تبادل الأسرى ووقف جزئي للقتال) من دون الالتزام بجدول زمني للانسحاب، وهو ما ترفضه حماس. كذلك يصر الأمريكيون والإسرائيليون على شرط نزع سلاح المقاومة، وهو بند تعتبره حماس مساسًا بجوهر وجودها.
ملف إدارة غزة يمثل عقبة أخرى؛ إذ يطرح الأمريكيون والأوروبيون فكرة تشكيل “مجلس وصاية دولي” لتولي إدارة القطاع مؤقتًا، بينما ترى حماس أن هذا المقترح يعيد إنتاج تجربة “الإدارة المدنية الإسرائيلية” بغطاء دولي. سياسيًا، يواجه نتنياهو ضغوطًا من شريكه إيتمار بن غفير الذي هدد يوم 3 تشرين الأول/أكتوبر بالانسحاب من الائتلاف إذا وافق نتنياهو على أي انسحاب أو صفقة مع حماس، وهو ما قد يؤدي إلى سقوط الحكومة، والأمر ذاته صرّح به وزير المالية في حكومة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش.
في ظل هذه التعقيدات، يمكن تصور عدة سيناريوهات. الأول، التوصل إلى اتفاق شامل يتضمن صياغة واضحة لملفات تبادل الأسرى والانسحاب، مع ترك قضايا السلاح وإدارة غزة مفتوحة لصياغات مرنة. الثاني، اتفاق جزئي يقوم على هدنة مؤقتة تمتد لعدة أشهر، يجري خلالها الإفراج عن عدد من الأسرى الإسرائيليين واستكمال التفاوض لاحقًا. السيناريو الثالث، اتفاق هش يرحّل القضايا الخلافية إلى أجل غير مسمى، من دون التزام إسرائيلي بالانسحاب أو خطوات جوهرية. أما السيناريو الرابع، فهو فشل المفاوضات، سواء عبر تحميل واشنطن وتل أبيب المسؤولية لحماس، أو عبر انفجار خلافات علنية بين ترامب ونتنياهو، أو حتى بتشديد الخناق على حماس عربيًا وإسلاميًا.