خاص قدس الإخبارية: تُكمل الحرب على قطاع غزة عامين كاملين، وسط مشهد غير مسبوق من الدمار واختلال موازين القوة، فالمعركة التي استخدم فيها الاحتلال الإسرائيلي كل أشكال القوة الغاشمة، تحولت إلى نموذج صارخ لانعدام التناسب بين المعتدي والمعتدى عليه، وبين الجغرافيا الصغيرة المحاصرة والآلة العسكرية المتوحشة التي صبّت حممها على البشر والحجر بلا تمييز.
منذ الأيام الأولى، فُرض على غزة حصار خانق بدا وكأنه يسعى إلى خنق أنفاس الحياة ذاتها، ومع مرور الأشهر، اتخذت الإبادة شكلها الكامل: تجويع متعمد، وانقطاع في الموارد الحيوية، ودمار شامل للبنية التحتية، في ظل تواطؤ دولي مثقل بالتبريرات والتأخير في الاعتراف بحجم الجريمة الجارية أمام أعين العالم.
ورغم هذا الواقع الكارثي، استطاع المقاوم الفلسطيني أن يقلب المعادلة، وأن يخلق واقعًا ميدانيًا يناقض كل منطق القوة المجردة، فالمقاتل الذي يُفترض أنه محاصر ومقطوع الإمداد، وُجد في موقع المبادرة، والمقاومة كمنظومة أظهرت قدرة تنظيمية وعسكرية استثنائية في مواجهة حرب الإبادة.
على مدار عامين، لم تتوقف المقاومة الفلسطينية عن توجيه ضرباتها لجيش الاحتلال في مختلف مناطق القطاع، مستخدمةً في معظمها أسلحة مصنعة محليًا، ضمن منظومة عملياتية منسقة تعتمد على وحدات صغيرة مترابطة تُشغّل مئات العقد القتالية المنتشرة في غزة.
هذا الصمود، الذي تخطى كل تقديرات المنطق العسكري، شكّل مشهدًا مدهشًا يستحق الوقوف عنده طويلًا لفهم كيف نجحت المقاومة في تحويل معادلة "النجاة المستحيلة" إلى واقع قائم.
مراكمة القوة… من الحصار إلى التصنيع الذاتي
منذ سنوات، اتبعت المقاومة استراتيجية واضحة تقوم على مراكمة القوة كخيار استراتيجي مدروس، إذ قررت أن الواقع المحاط بالحصار والمراقبة الإسرائيلية المشددة، والذي يتكرر فيه تصاعد إلى حملات عسكرية مركزة تهدف إلى تدمير قدراتها واستنزافها، لا يمكن تجاوزه بالاعتماد على قنوات التهريب وحدها أو على مفردات العمليات المعزولة.
مع تراكم الخبرات والقراءات الميدانية، نمت قناعة داخل بنى المقاومة بضرورة بناء قدرات محلية مستدامة؛ أي تأسيس منظومة تصنيع وطنية قادرة على تزويد الكتائب بأسلحة ومعدات متواصلة حتى في أقسى ظروف الحصار.
لم يكن هذا المسار طارئًا، بل له جذور تاريخية، إذ شهدت السنوات اللاحقة لعدوان 2008–2009 بدايات مأسسة التصنيع المحلي بدأت ملامح في السنوات الأولى لانتفاضة الأقصى مراكمًا على تجربة يحيى عياش، وتبلور أثرها في 2012 عندما وصلت صواريخ محلية الصنع إلى عمق الأراضي المحتلة لأول مرة.
خلال أعوام متواصلة من العمل المضني، جرى استثمار العقول والمهارات ونقل الدروس بين جولات القتال، وتحول التعلم الميداني إلى بناء صناعي متدرج: من العبوات الناسفة والتطوير الصاروخي المبكر، إلى تصنيع منظومة متكاملة شملت طائرات مسيّرة قتالية، بنادق قنص متطورة، منظومات دفاع جوي محلية، ذخائر، ومجموعة واسعة من القذائف والهاون، وصولًا إلى إنتاج قذائف مضادة للدروع ذات مديات وقدرات تشغيلية شكلت الياسين 105 درة تاجها.
لم يكن هذا الطريق سهلاً؛ بل كان سباقًا مع الزمن في ظل استهداف إسرائيلي متواصل لبُنى الإنتاج ومخازنه وقياداته، وقد تكشّفت محاولات متكررة لتصفية حلقات مركزية في شبكات التصنيع، وكانت العملية التي استهدفت قياديين ومهندسين في مايو 2021 من الأمثلة البارزة لهذا التكثيف والتي أدت إلى إغتيال قائد لواء غزة في كتائب القسام باسم عيسى، برفقة المهندس العالم جمال الزبدة وثلة من مهندسي القسام.
ورغم فداحة الخسارة، أثبت الميدان قدرة عالية على الصمود، تؤكد أن منظومة التصنيع تحولت من تركّز في مواقع محددة أو خبرات معينة إلى شبكة مؤسسية لا تعتمد على عنصر واحد، قادرة على التعافي وتكريس ديمومة الفعل المقاوم.
خلال عامين من الحرب، كانت هذه الشبكة الصناعية المحلية أحد أبرز أعمدة استمرار المقاومة، إذ مكّنتها من الاستمرار في الضرب والرد رغم حصار خانق وظروف تشغيلية لا تُحتمل، محققة بذلك تحوّلًا في موازين الإمكانات بين فرضية الاندثار والقدرة على الاستمرار بالمواجهة، ولعل أبرز نموذج يستحق التأمل، هو إدخال القسام لعبوات "الشواظ بالعمل الفدائي" إلى الخدمة خلال الحرب وتصنيعها وتوزيعها على محاور القتال.
الاستثمار في العنصر البشري
منذ الإدراك المبكر للمواجهة حتى لحظة الاشتباك المفتوح مع الاحتلال، يبقى السلاح الأهم لدى المقاومة هو الإنسان -المقاوم الفلسطيني، فبدون عنصر بشري مُدرّب ومُلتزم عقائدياً وتكتيكياً، تظلّ الخطط والذخائر والتجهيزات مجرد أدوات بلا فعالية حقيقية.
ولذلك وضعت قيادة المقاومة استثمار العنصر البشري في صلب استراتيجيتها، وقد تجلى الاستثمار في أبعاد متعددة؛ أولها صياغة عقيدة قتالية واضحة تُشدد على التعبئة الوطنية والثورية، وتُعرف المقاوم بمهمته الوطنية وتمنحه الإطار الفكري الذي يبرّر التضحية ويُلهب الدافع القتالي.
ثانياً، رافق ذلك بناء احترافي للمقاتل عبر تحويل التدريب من نموذج تقليدي إلى نموذج تكتيكي-عملي متكامل، إذ لم يعد التدريب يدور حول المهارات الفردية فحسب، بل شمل منظومة تعليمية تضم استراتيجيات وتكتيكات، تخطيطًا عمليًا، ودراسات تاريخية للسياق الوطني.
وقد كانت إحدى تجليات هذا التوجه تأسيس كليات عسكرية متخصصة -على رأسها الكلية العسكرية التابعة لكتائب القسام- التي أصبحت حاضنة لتخريج قيادات ميدانية قادرة على الأداء في ظروف معقدة ومتحولة.
ثالثاً، تجلّت جدوى الاستثمار البشري في قدرات المقاومين على إعادة تشكيل ميدان القتال وفقاً لمتغيرات الواقع. خلال عامين من الحرب، وبرغم سياسة الأرض المحروقة والاستنزاف المكثف، نجح المقاومون في تعديل أنماط عملهم عبر ابتكار تكتيكات جديدة، توزيع المهام داخل شبكات مرنة، واستغلال معطيات الميدان لإحداث تأثير مستدام على قوات الاحتلال.
وأخيراً، لم تكن الخطط الدفاعية مجرد نصوص؛ بل كانت عملية ديناميكية قابلة للتطوير، من قدرة القيادة على تقييم الإمكانات العملياتية، واستنهاض أركان متخصصة لتمكين المبادرات القتالية التي أدت إلى ولادة خطوط قتالية جديدة تتماشى مع تغير الوقائع الميدانية.
وهذا ما يفسر كيف استطاع المقاوم الفلسطيني، في ساحات تبدو محروقة ومفقودة للأمل مثل رفح وشرق خانيونس وشمال غزة، أن يثبت تفوقه في الأداء والتكيّف على تصورات التحليل العسكري التقليدي لحروب المدن وحروب العصابات.
قدرات القيادة والسيطرة
منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة، جعل الاحتلال من سياسة الاغتيالات هدفًا مركزيًا في مسعاه لشلّ قدرة المقاومة عبر تحييد قادتها، خلق فراغ قيادي يربك قواعدها، وفرض ردع يضعف روح المواجهة.
أمام هذا الهجوم المركّز، برزت لدى المقاومة استجابة منهجية قائمة على افتراض أن استهداف القيادة المركزية هو سيناريو محتمَل ومرجّح، فبُنيت على ذلك آليات مؤسسية تحفظ استمرارية القيادة وربطها بالقواعد الميدانية.
نجاح المقاومة في الحفاظ على ديمومة فعلها لم يكن وليد صدفة، بل نتاج استعداد تنظيمي وتخطيط مسبق، فقد خسرت كتائب القسام جزءًا كبيرًا من قياداتها، من قادة ألوية إلى قادة أركان، وحتى القائد العام الشهيد محمد الضيف، وخليفته الشهيد محمد السنوار، ومع ذلك لم يتوقف الفعل الميداني ولا تبدّل نسق المواجهة، ويوضح هذا الاستمرار أن بنية القيادة لم تكن مركزة على أفراد بعينهم، بل مؤطَّرة في شبكات متعدّدة ومستبدلة، قادرة على الحفاظ على دورة القرار والتنفيذ.
وقد أثبتت مؤشرات الميدان والإعلام والخطاب أن قنوات الاتصال بين القيادة والقواعد ظلت نشطة وفعّالة، وأن التوجيهات التخطيطية والعملياتية تُترجم إلى قرارات موحَّدة داخل العقد القتالية المنتشرة في مختلف محاور القتال.
ولعلّ أبرز تجليات ذلك كان في نمط الاستجابة الدفاعية خلال مراحل العدوان المختلفة، من مواجهة الغزو البري الأولي التي ركّزت على خطط لإعاقة التقدّم، إلى مواجهة "عربات جدعون" حيث انتقلت التكتيكات إلى رفع كلفة التقدم البري عبر استهداف الآليات والجنود بعبوات وجهود هندسية قتالية.
هناك أيضًا آلية واضحة لتبادل الدروس والتجارب بين الألوية؛ أي أن نموذجًا ناجحًا في محور معيّن لا يبقى محصورًا، بل يُنقل سريعًا ويُكيّف في محاور أخرى، إذ تكشف هذه المرونة في التعلّم والانتشار عن عمق قدرات القيادة والسيطرة، التي تتجاوز كونها مجرد مصدر لصدور الأوامر، إلى كونها منظومة أداء قادرة على التقييم الميداني السريع، تعديل الخطط، وتعميم التكتيكات الفعّالة عبر سلاسل قيادية مرنة.
بعبارة أوضح، فإن الاستهداف المستمر للقيادة لم ينجح في تعطيل منظومة القرار المقاوم لأن هذه المنظومة كانت مُصمّمة أصلاً لتجاوز السيناريو الأسوأ، عبر تفكيك التركيز، توزيع المسؤوليات، والحفاظ على قنوات اتصال سرية وبديلة تضمن استمرار توجيه المعركة وإدارة ساحاتها بكفاءة.
لماذا استمرت المقاومة؟ وما الذي يعنيه ذلك؟
بعد عامين من حرب الإبادة، يمكن القول إن استمرار المقاومة لم يكن معجزة عسكرية بقدر ما كان نتيجة تراكم واعٍ لقوة الفكرة، وعمق الإيمان، وصلابة الإنسان، فالمعادلة التي بدت في ظاهرها مختلة، بين آلة حرب تملك كل أدوات التدمير، وشعب محاصر في مساحة ضيقة من الأرض، تحوّلت بفعل التصميم والإيمان إلى معادلة جديدة قلبت الحسابات.
في جوهر الأمر، استمرت المقاومة لأنها تمتلك ما لا يُقاس بالعتاد أو بالتكنولوجيا؛ تمتلك القناعة الراسخة بأن الدفاع عن الأرض ليس خيارًا ظرفيًا، بل فعل وجودي نابع من إيمان عميق بأن الحرية حق لا يُمنح بل يُنتزع. لقد أثبت المقاتل الفلسطيني أن الفكرة حين تتجذّر، تصبح أقوى من الطائرة والصاروخ والدبابة، وأن الإيمان بعدالة القضية يمكنه أن يتفوّق على آلة القتل مهما تعاظمت.
ولعل الدرس الأعمق الذي كشفته الحرب هو أن ما لا يمكن هندسته أو تدجينه هو روح الإنسان الحر، وأن محاولات الاحتلال لطمس هذه الروح عبر الاغتيال، أو الحصار، أو التجويع، لم تؤدِّ إلا إلى صقلها وزيادة صلابتها، فكل شهيد يسقط يترك خلفه جيلًا أكثر وعيًا وصلابة، وكل قصف يضيف إلى الذاكرة الجمعية دافعًا جديدًا للاستمرار.
إن استمرار المقاومة شهادة على أن جوهر الصراع لم يعد حول السلاح فحسب، بل حول من يملك القدرة على الإيمان، ومن يستطيع أن يظلّ واقفًا حين ينهار كل شيء. وفي هذا الميدان، أثبت الفلسطيني أنه لم يخسر يومًا، لأنه لم يتخلَّ عن ذاته، ولم يفقد يقينه بأن الحق لا يُهزم، مهما طال زمن النار والدمار.