خاص - شبكة قُدس: أصبحت الضفة الغربية اليوم سجن بلا جدران مرئية، صُممت هندسته عبر أدوات استعمارية متراكبة: مستوطن يمارس العنف المباشر، وحاجز يُعيد هندسة الزمن والحركة ويحول المكان إلى قيد. في هذه الهندسة، لا يقف الحاجز كـنقطة تفتيش عابرة، بل كـأسوار السجن ذاتها: يطوق، يجزئ، ويحول الحياة اليومية إلى مسار من الممنوعات والانتظارات.
المستوطن هنا يُمثل امتداداً عضوياً للمشروع الاستيطاني، أداة لترسيخ الوجود بالقوة. منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 تضاعفت الهجمات: دخول للقرى تحت حماية الجيش أو بمشاركته المباشرة، حرق بيوت وسيارات، اعتداءات على المزارعين في مواسم الزيتون، وإطلاق نار على السكان. في قرى وبلدات الضفة مثل: حوارة واللبن الغربي والخضر وغيرها، صار الخوف من هجوم المستوطنين جزءاً من الروتين، لا استثناءً يقطع السكون.
والأداة الأخرى للمنظومة هي الحاجز: الجهاز العسكري الذي يحول السيطرة إلى روتين. الحاجز جدار متنقل، يرسم الخرائط الدقيقة للعيش: طريق العمل، ممر الجامعة، الوصول إلى المستشفى. لا يكتفي بمنع الحركة؛ إنه يعيد تعريف الزمن ذاته: ساعات انتظار مطاطة، إغلاقات مفاجئة، بوابات تُفتح وتُغلق وفق جدول أمني لا يراه السكان ولا يتحكمون به. بهذا المعنى، يغدو الحاجز أسوار السجن: ليس بناءً من طوب، بل شبكة من نقاط وطرق ومنعطفات تعزل القرى وتخنقها.
القرى الفلسطينية على الحافة: حيثُ تتجسد الأسوار:
في حوسان غرب بيت لحم، لم يعد الطريق الالتفافي (375/3676) مجرد بنية تحتية، إنما مشرط يقسم القرية ويعزل أراضيها ويجعل الوصول إلى المناطق فيها مغامرة محسوبة على مزاج الحاجز. إلى الجنوب تتمدد مستوطنة بيتار عيليت، وإلى الشمال والغرب "الخط الأخضر"، وفي الوسط بوابات وحواجز دائمة: هنا تتجسد الأسوار بوصفها قراراً بحركة الناس، لا حجراً يعترضهم.
في الخضر، تقطع الطرق رقم 60 و375 جسد القرية، ويأتي الجدار ليعزل آلاف الدونمات الزراعية. منطقة أم ركبة نموذج مصغر: بيوت مهددة بالهدم، طرق قطعت، ومستوطنة تتقدم على أنقاض مسارٍ كان يربط قرى الجنوب قبل انتفاضة الأقصى. يقول أحد السكان: "الشارع الالتفافي صار طريقاً رئيسياً للمستوطنة… لما بيسكروا، الحي بينقطع عن البلدة تماماً". هكذا يُترجم الحاجز إلى حصار اجتماعي لا يراه العابر على الخريطة.
إلى الشمال الغربي من رام الله، تبدو اللبن الغربي ونعلين داخل كماشة: مصادرات واسعة، طرق التفافية (446/465 وغيرها) بارتدادات أمنية تُصادر الأرض، وجدار يعزل مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.
في نعلين، أصبحت السيطرة فعلاً يُمارس يومياً، دائمة تحدد توقيت فتح المحال وأوقات تدفق المستوطنين، وتقرّر إمكان اللقاء اليومي أو انعدامه.
أما في حوارة جنوب نابلس، تتكثف الصورة: مستوطنة يتسهار وبؤرها على التلال، قواعد وحواجز مفصلية (زعترة، حوّارة، يتسهار) على طريق 60، وتواجد عسكري يعيد رسم حركة الشمال والجنوب. إخلاء بعض الحواجز في سنوات مضت لم يُنهِ وظيفة السيطرة؛ فالحواجز الطيارة والدوريات تعيد كل مرة تثبيت قاعدة: المرور امتياز قابل للسحب.
شرقي القدس، في حزما والعيزرية، يصبح الحاجز عبارة عن: مسارات، بوابات، وتصاريح. الجدار هناك لا يقف وحده؛ يتكامل مع شبكة طرق رقم (1) و(417) وحاجز أبو سبيتان، ليتحول الوصول إلى القدس من حق طبيعي إلى استثناء مُرخص.
أما في برطعة الشرقية (جنين)، فقد صيغت التجربة بأقصى تعبيراتها عنفاً: جدار يطوق، وتصاريح دخول وخروج حتى لأهل المكان، وهاجس دائم بكون القرية ممراً محتملاً إلى ما وراء "الخط الأخضر" وفق التسمية الاستعمارية للحد الفاصل للقرى الفلسطينية عن امتدادها الجغرافي الطبيعي. هنا يصبح الحاجز هويةً مكانية: بطاقة عبور قبل أن يكون نقطة تفتيش.
من المحل إلى الموقع : معنى المكان بين البرغوثي ودقة
لفهم هذا السجن، نحتاج لما يُمسك هذا الترابط الاستعماري. في أدبه وفكره، قدم حسين البرغوثي تصوراً لـ المكان المنقرض: مكانٌ يزحف عليه سطحٌ استعماري (المستوطنة) حتى يغدو وجودُ الفلسطيني محلاً لا موقعاً؛ حضورٌ بلا ثبات، حركة بلا جذور حين يرحل المكان من نفسه ويصير مرايا ، كما يكتب البرغوثي، لا يعود الفلسطيني يرى سوى انعكاس انقراضه في اتساع المستعمرة حوله: يضيق الفضاء حتى تصير حدود الجسد هي حدود المكان.
الحاجز، بهذا المعنى، ليس خارج المكان؛ إنه الآلة التي تُحول المكان إلى محل: تنقل بلا استقرار، انتظار بلا وصول، زمنٌ مقطوع يختلف من قرية إلى أخرى تبعاً لإملاءات السيطرة الاستعمارية. لذلك تصبح القرى الفلسطينية حدودية لا لأنها على خطٍ دولي، بل لأن حدودها ترسمها الحواجز والطرق الالتفافية والجدار والمستوطنات الصهيونية التي تتقدم باتجاهها.
أما وليد دقة، فقدم مفتاحاً مكملاً لوصف الواقع الفلسطيني: السجن الكبير مقابل السجن الصغير. داخل الزنزانة تُدار السيطرة المباشرة، لكن السجن الكبير هو حين يُعاد إنتاج منطق الزنزانة في حياة شعبٍ كامل.
هندسة السيطرة: من الحاجز إلى الاستيطان
لم يعد الحاجز في الضفة الغربية استثناءً أمنيّاً، بل تحول إلى قاعدة تُبنى عليها تفاصيل الحياة اليومية. فبحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، بلغ عدد الحواجز والبوابات والسواتر والمكعبات الإسمنتية 898 عائقاً حتى 22 كانون الثاني/يناير 2025، بينها 18 بوابة حديدية أُضيفت منذ مطلع العام. هذه الأرقام تكشف أن الضفة لم تعد فضاءً طبيعياً، بل شبكةً من العوائق التي تتكاثر كأنها "أسوار مرنة" تقطع أوصال القرى والمدن وتحوّل الجغرافيا الفلسطينية إلى جزر معزولة.
الحاجز لم يعد مجرد نقطة تفتيش، بل نظام كامل يعيد تعريف المكان والزمان معاً: 898 طريقة مختلفة لقول "توقف"، و898 لحظة انتظار تُقاس لا بالدقائق بل بانكماش الحرية. ومع كل بوابة جديدة أو حاجز مُغلق، تتسع مساحة السجن الكبير، حتى وإن لم تكن الجدران مرئية.
هذا التشظي المكاني يتكامل مع التوسع الاستيطاني. ففي عام 2024 وحده، رصدت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان مصادرة ما يقارب 11,888 دونماً من الأراضي الزراعية والرعوية، والموافقة على أكثر من 13 ألف وحدة استيطانية جديدة، فضلاً عن مخططات ومناقصات استيطانية تجاوزت 28 ألف مشروع في مختلف أنحاء الضفة.
هذه المعطيات لا تعكس مجرد زيادة عددية، بل تكشف عن منهجية ضم زاحف تتقدم بخطوات متوازية: الحواجز تُقسم الجغرافيا وتعزل الفلسطيني عن محيطه القريب، بينما تملأ المستوطنات الفراغ الناتج عبر تمدد عمراني يربط الكتل الاستيطانية الكبرى ببعضها البعض. والنتيجة أن شبكة الحواجز لم تعد فقط وسيلة للسيطرة الآنية على الحركة، بل غدت جزءاً من مشروع استراتيجي أوسع يهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الجغرافي والديموغرافي على حد سواء.
بهذا المعنى، يصبح الفضاء الفلسطيني مزدوج القيد: قيود يومية تفرضها الحواجز على حرية الحركة والتنقل، وقيود استراتيجية يرسخها الاستيطان عبر ابتلاع الأراضي وتقطيع أوصالها. هكذا تتحول الضفة إلى سجن بلا جدران صلبة، بل ببوابات وأسوار متنقلة ومستوطنات تتمدد كأنها "جدران مستقبلية" تُعيد إنتاج السيطرة بشكل دائم.
اقتصاد على فم الحاجز: من الزمن إلى السوق
لم يعد الحاجز مجرد نقطة تفتيش، إنه مُحدد يومي لسرعة دوران الاقتصاد في الضفة. إغلاقٌ هنا، بوابة زراعية مغلقة هناك، تحويلة قسرية تجعل رحلة نصف ساعة تمتد لساعتين—كل ذلك يُحول الوقت إلى تكلفة: كلفة نقل أعلى، سلاسل توريد متقطعة، نوبات عمل مهدورة، وأسواق تفقد زبائنها لمجرد قرار أمني لحظي.
رصدت المؤسسات الحقوقية خلال العامين الأخيرين ازدياد الحواجز المتحركة، وتكرار إغلاق البوابات، واستطالة أزمنة الانتظار—وهذه بالذات عوامل تضرب قطاعات الخدمات والتجارة والنقل والزراعة في مقتل؛ فالزيتون لا ينتظر بوابة تُفتح، والشحنات القابلة للتلف لا تنجو من طابور بلا توقيت.
داخل هذا المشهد، تظهر ظاهرة تقديم الخدمات للمستوطنين في بعض القرى بوصفها أثراً جانبياً لاقتصادٍ محاصر: محاولة لالتقاط سيولةٍ من حركة مفروضة قسراً عبر الطرق الالتفافية، وممراتٍ يزنها الحاجز بميزانه. لكنها ليست جوهر اقتصاد الضفة—الجوهر هو ما تفعله الحواجز بالاقتصاد ككل: تجزئة السوق الداخلي إلى جزر منفصلة، خنق سلاسل التوريد عبر الطرق المحاصرة (مثل 60/90/55)، وتحويل زمن القيد إلى خسارة فورية في المتاجر والأسواق المحلية كما حصل في أريحا خلال إغلاقات مطولة.
ومع التوسع الاستيطاني المتسارع (خطط بناء، مصادرات، وشرعنة بؤر استيطانية)، تتبدل الجغرافيا الاقتصادية نفسها: طرق جديدة لخدمة المستوطنات، مساحات ارتداد أمنية تبتلع الأراضي، وجدار وبوابات تغلق المنافذ الطبيعية للبلدات نحو أسواقها المركزية.
الخاتمة:
بكلماتٍ أخرى: إذا كان المستوطن يولد عنفاً مباشراً يطول الجسد والأرض، فإن الحاجز يولد عنفاً مركباً يتسرب إلى تفاصيل الحياة اليومية—خسارة وقتٍ، وانقطاع إنتاجٍ، وتآكل رأس مال اجتماعي. وهكذا يصبح "الاقتصاد على فم الحاجز" توصيفاً دقيقاً لاقتصاد الضفة الغربية، حيث لا يُقاس العمل والتبادل بمنحنى السوق، بل بجدول فتح وإغلاق، وبمقدار ما تسمح به البوابات والطرق المقطوعة.
في هذا المعنى، يتكامل العنفان: عنف المستوطن الذي يقتحم القرى ويمارس القوة المباشرة، وعنف الحاجز الذي يقيد الحركة ويعيد تشكيل الزمن. كلاهما ينتميان إلى هندسة استعمارية واحدة، غايتها تحويل الضفة إلى سجن جغرافي–زمني بلا جدران عالية، بل بحواجز وأسوار متنقلة. وفي النهاية، هناك، عند نقطة التفتيش التالية، نفهم أن السؤال لم يعد: كيف نصل؟ بل: من يملك الحق في تعريف الوصول أصلاً؟