محاولة فهم الآراء العربية، ومنها الفلسطينية، لردّ حركة حماس على خطة ترامب التي أراد منها تصفية القضية الفلسطينية من بوابة حرب الإبادة الشاملة على قطاع غزّة؛ تبقى انطباعية ما لم تدعمها بيانات ميدانية أو استقصاءات رأي، لكن يمكن الاطمئنان إلى أنّ الاعتقاد بأنّ الغالب على الناس تفهّم هذا الردّ هو اعتقاد صحيح، وذلك راجع إلى أمرين: الأوّل ثقل الدمّ الهائل والمعاناة الغزية غير المتصوّرة، وانعدام الخيارات أمام الإبادة المفتوحة على يد الإسرائيلي بالدفع الأمريكي والتخاذل العربي متعدد المستويات من العجز إلى التواطؤ الفعلي، والثاني: القراءة الدقيقة لردّ حركة حماس الذي لم يختلف جوهريّا عن مجمل مواقفها السابقة، أي إرادتها إنهاء الحرب وسحب قوات الاحتلال وتبادل الأسرى. والذي اختلف هذه المرّة هو التفصيل في هذا القسم من الردّ، إذ قبلت الحركة مبدأ تبادل الأسرى دفعة واحدة بالرغم من إدراكها لاحتمال غدر العدوّ المستفيد من موازين القوى ذاتها (دفع أمريكي وتخاذل عربي) بعد إتمام هذا التبادل، كما اختلفت صيغة تعبيرها عن مبادئها الأساسية فيما يتعلق بالقسم السياسي من خطة ترامب المتعلق بالوصاية الدولية والسلاح وما إلى ذلك، فأحالت هذا القسم إلى إطار وطني فلسطينيّ جامع، والأمر هنا لا يتجاوز الصياغة.
يبدو هذا الموقف مفهوما بالنسبة لغالبية الجماهير العربية المعتبرة ممن يمكن رصد تعبيراتهم عن موقفهم إزاء الأمر، من دون التقليل من أثر الدعاية العربية المضادة بالتشويش على هذا الوعي، ومن دون التقليل حتما من أثر نتائج الإبادة الإسرائيلية على الغزيين، وكذلك في الحرب العدوانية على لبنان وما تلاها من نتائج قاسية على الجماهير العربية والإسلامية الداعمة للمقاومة.
ومن نافلة القول؛ فإنّ المواقف العلنية والرسمية للقوى المنخرطة في قضية المقاومة ينبغي أن تُحسب على مواقف هذه الجماهير، بينما البيانات الرسمية للدول العربية والإسلامية التي رحبت بردّ حركة حماس ينبغي أن تُحسب على طريقة تعاطي الموقف الأمريكي مع ردّ الحركة، فهل لو رفض ترامب ردّ الحركة ذاته كانت هذه الدول سوف تسارع إلى الترحيب بردّ الحركة أو استنكار رفض ترامب؟! أمّا الأصوات المعادية التي تخرج من بين الناس فهي غير بعيدة عن الدعاية الرسمية للدول العربية والتي تكشف عن نفسها بالعداء الصريح في بعض القنوات الفضائية الممولة من بعض هذه الدول، أو التي تستخدم النشطاء والإعلاميين والمثقفين واللجان الإلكترونية في غرض مركب من السعي للتأثير على الرأي العام، ومحاولة الإيهام بأنّ هذه الدعاية هي الرأي العام!
بعد التجاوز عن المواقف غير المعتبرة لأنّها تنطلق من مواقف عدائية مركبة تجاه حماس بوصفها حركة "إسلام سياسي"، وبوصفها حركة مقاومة، ومن القضية الفلسطينية نفسها بوصفها القضية الأكثر إزعاجا للأنظمة العربية المتعاقبة على البلاد العربية؛ لكون هذه الأنظمة أعجز من أن تحمل هذه القضية التي تتوفّر على عوامل التسييس للشعوب العربية، فإنّه من الضروري فهم المواقف التي لا تنطلق من هذا العداء في تقييمها لردّ حركة حماس، وينبغي، والحالة هذه، التذكير بأنّ انتفاء العداء في تقييم ردّ حماس هذا خاصّة، أو مجمل أفكارها وسياساتها وخطاباتها، لا يعني انتفاء الاختلاف معها، ولكن الاختلاف مع الحركة لا يقتضي العداء، علاوة على أنّه لا يقتضي الانخراط بأي نحو كان في دعاية العدوّ الذي هو أصل المشكلة ويُعمل إبادته في جميع الغزيين.
بمراجعة المواقف غير المعادية، سواء أيدت ردّ الحركة بالمطلق، أم تفهّمته مع إظهار قناعتها بأنّ الأولى كان الرفض على أساس القراءة التي تتوقع غدر الاحتلال، أم لم تتفهمه، لا بدّ وأن نقع على تشوش في بعض هذه المواقف، بعضها ناجم عن مفاعيل الإرادة الإسرائيلية المتجسدة في سياسة الإبادة الجماعية التي سعت بأقصى ما أمكنها من عنف إلى قلب الوعي العربي والإسلامي، من تصوّر الإمكان يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لا إلى استعادة العجز وعيا مؤبدا فحسب، بل وأيضا إلى تأنيب الضمير وتأثيم النفس حينما أثبتت لذاتها عدم استحالة الإمكان. فاليوم، وفي ذكرى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لن تجد الحضور المستحق لذلك اليوم بفرادته على إثبات القدرة على الإمساك بزمام الإمكان، ومن ثمّ فردّ الحركة، ومهما كان تقييمه، سيبقى الموقف منه لدى شرائح عربية وإسلامية غير منفصل عن التأثّر بمسارات الإبادة التي أرادت محو ذلك اليوم من وعي الجماهير العربية والفلسطينية، بحيث تعجز بعض القراءات الناقدة عن الفصل الدقيق بين النقد للحسابات المحيطة بقرار ذلك اليوم، وبين المراجعة التأثيمية للنفس والمفضية إلى أنّه ما كان لها أن تسعى إلى الإمكان أصلا!
تُذَكّر هذه النتيجة التأثيمية بكاتب فلسطيني لا يكاد يقول شيئا في كلّ مقالة يكتبها سوى الإلحاح على أنّ الخيار العسكري في مواجهة "إسرائيل" انتهى إلى غير رجعة، وبالرغم من أنّ الاستعجال في إصدار حكم كهذا محكوم بمسارات الإبادة بالضرورة، فلا بدّ من إنصاف هذا الكاتب وبعض ممن يرى رأيه؛ بأنّهم يعيشون هذه الحالة التأثيمية للنضال الفلسطيني من قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فبدت لهم الإبادة على وحشيتها الفادحة فرصة للتأكيد على صواب توجههم هذا، وقد اتسمت أطروحاتهم دائما من قَبْل بسوء الظن والسخرية حتى من دعاوى الإمكان هذه، حتى إذا أثبتت ذاتها -أي دعاوى الإمكان- لم يروا في ذلك مدعاة إلى مراجعة النفس، بل إلى التأكيد على خطأ الإمكان هذه المرّة. وإذا كان هؤلاء ينطلقون من قناعات تبلورت بالتجربة الذاتية الطويلة التي يعجزون عن أخذ مسافة منها، ومشاعر سلبية تجاه حماس بوصفها حركة "إسلام سياسي"، فإنّ بعض الآراء المشوشة، وإن لم تنطلق من المنطلقات نفسها، بات لها رأي قريب بفعل الإبادة.
في بيئات أخرى داعمة للمقاومة، تُظهِر آراء، يصعب رصد مستواها اتساعا وضيقا، مراجعة تأثيمية لدوافع إسناد المقاومة الفلسطينية في غزّة، بسبب النتائج الإسرائيلية على حزب الله في لبنان، فالخسائر المادية، وأهمها اغتيال الأمين العام الأسبق السيد حسن نصر الله، هائلة، علاوة على ما يتصل بها من خسائر معنوية متصلة بالظرف السياسي اللبناني الداخلي، وكذلك بالظرف الإقليمي، إن في سوريا، أو على مجمل قراءة المشهد من زاوية طائفية صرفة لا من زاوية موقف أصيل في العداء للاستعمار وهيمنته.
ومن هنا يمكن للدعاية العربية المعادية، التي تعادي المقاومة من حيث هي بقطع النظر عن هويتها المذهبية، التقاط مراجعات تأثيمية كهذه لضرب مقاومتين بحجر واحد، مقاومة حزب الله ومقاومة حماس، حينما تذهب بعض الأصوات للقول إنّه ما كان للحزب أن يدفع هذه الأثمان لأجل من لا يستحق. والذي لا يستحق هذه المرّة حركة حماس حين قراءة ردّها استسلاما، وهي قراءة انفعالية خاطئة، لا بالنظر إلى أنّها مستعجلة فقط، ولكن حتى في حدود الراهن في إطار صياغة حماس لردّها كما سبق شرحه في مطلع هذه المقالة. بيد أنّ هذه المراجعة التأثيمية لا تسيء إلى حماس بقدر ما تنتقص من موقف الحزب حينما تجعله إسنادا اندفع بتقدير خاطئ،
في حين أنّه، ومع الموقف الثابت لجماعة أنصار الله في اليمن، كان العلامة التي ميّزت الحزب عن هذا الظلام المطبق على عموم المجال العربي والإسلامي. فحتى بالنظرة المذهبية الضيقة، فالأمر كان في صالح الحزب لا ضدّه، بالرغم من الأثمان التي دفعها الحزب ودفعتها حاضنته، والتي سوف تعود في يوم ما وتُسَجّل لصالحه وصالح هذه الحاضنة، لأنّ ما كان حقّا وصوابا لا يمكن أن يتحوّل إلى خطأ.
هنا ينبغي القول إنّ هذه القراءة المشوشة والخاطئة، والتي تنفعل بوجع ذاتي وإحساس عميق بالخسائر، والتي قد تستقي، والحالة هذه، من مشاعر طائفية ومذهبية أو مشاعر تلاحظ الاختلاف بين الأنا والآخر الذي جرت نصرته، لا تخصّ بعض الأصوات الشيعية، فالتشويش في الأوساط السنية ظل عاليا على نصرة الحزب لمقاومة غزّة، والقصد هنا أوساط شعبية وحركية ليست مندفعة بإرادة الأنظمة العربية، بل قد تكون معارضة لها، وهو أمر لا ينعكس فقط على أصوات من جماهير حركة حماس فحسب، ولكنه يربك هذه الحركة ويحرجها، حينما تسعى أطراف كهذه للاستثمار في الحركة طائفيّا ومذهبيّا، أو تصادر خطاب الحركة وتحاول إعادة تأويله، في ضرب من العطب الأخلاقي والفكري والعمي السياسي والإستراتيجي، الذي لا يأخذ فلسطين بعين الاعتبار؛ كما ينبغي أن تكون قضية جامعة لمستضعفي هذه الأرض، لدلالتها القاطعة بعدالتها الخالصة على الاختلال والفساد الحاصلين في هذا العالم، بقطع النظر عن أديانهم ولغاتهم وأجناسهم، فكيف بأبناء هذه المنطقة المنكوبة بالهيمنة والاستعمار والتبعية، كما أنّ هذه الأصوات تسعى إلى تأبيد الثارات الطائفية، في الوقت الذي تثبت فيه "إسرائيل" أنّها الخطر المحيط بجميع سكان هذه المنطقة.
إنّ هذه الأصوات المشوشة خطر على البيئات التي تخرج منها، لأنّها تشدّنا دائما إلى الخلف، ومن شأنها أن تنقل المراجعة التأثيمية إلى الفاعلين أنفسهم في مواجهة "إسرائيل"، فبالرغم من الأوجاع القاسية التي دفعت في المواجهة، فإنّ التاريخ لن يتوقف هنا، والفرصة لن تموت، بل قد تكون في أحسن حالاتها خلف الألم الكبير، لإعادة إنتاج النفس والذات على قاعدة واحدة، هي الوعي الكامل بمعنى "إسرائيل" في هذه المنطقة.