شبكة قدس الإخبارية

الطوفان والعودة لجذور الصراع: بين "إسرائيل التي لا تقبل القسمة" وأوهام السلام

photo_٢٠٢٥-١٠-٠٧_٢٠-٤٦-٠٩

خاص - شبكة قُدس: فلسطين بعد 7 أكتوبر ليست كما قبلها، هذه الحقيقة البسيطة لغويا تحمل معها كثيراً من الحقائق السياسية والعسكرية والميدانية التي تنعكس على حاضر ومستقبل نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار الصهيوني، المدعوم من قوى عالمية كبرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي انتقلت خلال حرب الإبادة المستمرة على غزة، والعدوان الذي طال عدة أقاليم عربية وإسلامية في المنطقة، إلى مرحلة غير مسبوقة في قيادة الحرب الإسرائيلية وتوفير الدعم المتعدد الأبعاد لها.

عودة للبدايات… دولة إبادة

قبل عملية "طوفان الأقصى"، في صباح 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت دولة الاحتلال تسير في مخطط "إدارة الصراع" مع الفلسطينيين، على وفق المخطط الذي صممه بنيامين نتنياهو، عبر عدة طبقات، أولها تكريس فصل أبدي لغزة عن الضفة الغربية، ومواصلة حصار القطاع مع فتح مسارب اقتصادية ضيقة تبقيه في حالة بين الحياة والموت ومنع الفلسطيني في غزة من الوصول لحالة من الاستقرار، وإغراق الضفة بالمشاريع الاستيطانية التي تقتل أي فرصة لقيام دولة فلسطينية، مع توسيع مسار السلام الاقتصادي وتحويل الفلسطينيين فقط إلى عمال في المستوطنات والمدن المحتلة، دون أي حل أو مشروع سياسي، وتفريغ السلطة الفلسطينية من مضمون سياسي وتكريس التنسيق الأمني لتحويلها بالكامل إلى جهاز أمني يحارب المقاومة ويريح الاحتلال من المسؤولية عن ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون حالة هجينة بين احتلال يسيطر على أراضيهم وسلطة "حكم ذاتي" تدير شؤونهم الحياتية لكنها لا تملك سيادة، وتزامنت هذه الحالة فلسطينياً مع توجه دول عربية كبرى نحو عقد اتفاقيات تطبيع وسلام علنية مع الاحتلال.

أعادت "طوفان الأقصى" والاندفاع الوحشي لجيش الاحتلال نحو تدمير وإبادة غزة، والحملة العدوانية على الضفة الغربية، الحالة الفلسطينية إلى مقابلة المربع الأول للحالة الصهيونية بوصفها حركة إبادة وإحلال للمستوطنين مكان الشعب الفلسطيني، مع خطابات دينية مكثفة تضع هذه الجرائم في مرتبة "القداسة"، وهو الخطاب الذي تعزز مع وصول تيارات الصهيونية الدينية إلى الحكم، في دولة الاحتلال، بعد مرحلة حاولت فيها "إسرائيل" إدخال سلوكها الاستعماري في آليات "ليبرالية" تصور للعالم أن احتلالها للشعب الفلسطيني، هو خاضع لاعتبارات القانون الدولي، وأنها توفر للفلسطينيين فرصاً للتطور الاقتصادي، وقمعها مقولب في قوالب غير مرئية في الغالب والمثال الأبرز هنا حالة السجون التي كان الأسير الفلسطيني فيها يخضع لحالة غير مرئية من القمع الذي يخضع لشروط الحداثة التي تدخله في التذويب الثقافي والهوياتي وإشغاله بالاستهلاك على حساب الاهتمام بالحالة النضالية ضد إدارة السجون.

ولم تكن الحرب الحالية سوى تفجير لمكنون هائل من التوجه داخل مجتمع المستوطنين نحو الإبادة، بقي مساره يتصاعد داخل جيش الاحتلال والمؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية الإسرائيلية المختلفة، وحصلت له تنظيرات بين كبار الجنرالات كما في مفهوم "كي الوعي" الذي طورته مجموعة من الضباط بينهم رئيس الأركان السابق، موشيه يعالون، الذي اعتبر أن على الفلسطينيين التعرض لعنف وحشي وشديد في كل مرة يحاولون الانتفاض للحصول على حقوقهم السياسية، لإيصالهم إلى مرحلة اليأس من تحقيق أي شيء من خلال العمل المسلح أو الثوري.

وتعزز هذا التوجه نحو ممارسة الوحشية في أقصى مستوياتها، مع صعود للتيار "الصهيوني الديني" في الجيش والمؤسسات المختلفة، وبثه خطابات تربط بين إبادة الشعب الفلسطيني والعدوان على المنطقة، مع فتاوى حاخاماته الذين لا يرون في الفلسطيني وأطفاله سوى هدف مشروع للقتل تبرره نصوص "توراتية".

كل هذه التطورات مع ما حصل في الضفة من هجوم عسكري واستيطاني شرس، وإعلان حكومة الاحتلال رفضها المطلق لأي كيان سياسي فلسطيني، حتى لو على مساحة صغيرة من الأرض، أعاد الشعب الفلسطيني في مواجهة الواقع الأول الذي خبره، قبل عمليات التسوية وتأسيس السلطة، وهو الاقتراب من حكم عسكري إسرائيلي مباشر، يوحد جميع الفلسطينيين على اختلاف ظروف استعمارهم تحت واقع واحد من الإبادة والاحتلال والفصل العنصري الذي يختلف عن تجارب عالمية أخرى كما في حالة جنوب إفريقيا.

عودة إلى فلسطين قلب التحرر العالمي

تشتبك فلسطين مع العالم ربما في صورة مختلفة عن كثير من القضايا، في التاريخ، لأسباب أبرزها أن النكبة التي وقعت على الشعب الفلسطيني كانت في جزء أساسي منها من صنع القوى الاستعمارية الدولية، في بداية القرن الماضي، خاصة بريطانيا صاحبة وعد بلفور، وراعية الحركة الصهيونية حتى وصولها إلى حالة الدولة، قبل أن تصبح تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها لسنوات كانت حاضرة بقوة في حركة التحرر الوطني العربي والعالمي التي سادت خلال سنوات مرحلة النضال ضد الاستعمار، وبقيت القضية الفلسطينية خاضعة للتغييرات على موازين القوى الدولية، والصفقات التي تقعدها الدول مع القوى الكبرى، على حساب الشعب الفلسطيني، والاعتبار الأبرز في تفكيك الحالة الدولية لفلسطين هو موقعها الروحي والديني والفكري لكثير من الشعوب خاصة الإسلامية والعربية منها، مع الإشارة إلى صعود قوى مقاومة في المنطقة، في السنوات الماضية، حاولت سد الفراغ الذي تركه خروج الدول العربية خاصة دول الطوق من الصراع مع الاحتلال، وعقدت بينها تحالفات وفتحت علاقات إسناد.

بعد دخول قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في مسار التسوية، وتحول الثورة الفلسطينية التي انطلقت منذ الخمسينات إلى حالة هجينة من الدولة التي لا تملك السيادة على أرضها، والتردي السياسي الذي أصاب الحالة السياسية الفلسطينية لعوامل مختلفة، تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية على المستوى الدولي، لجهة الشعوب وحركات التحرر، عزز منه التغييرات التي حلت على طبيعة الحراكات الجماهيرية في العالم من الاهتمام بالقضايا الكبرى إلى النضال على قضايا هوياتية وحياتية ومعيشية.

عقب الجرائم الإبادية التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وعدوانه على دول عربية وإسلامية، انفجر حراك التضامن في مساحات مختلفة من العالم، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وتعددت خلال حرب الإبادة أشكال غابت من الدعم لفلسطين، بينها انخراط نشطاء في أعمال مسلحة مباشرة، عدا عن حركة المقاطعة للشركات المتورطة في دعم نظام الاستعمار الصهيوني، والأساطيل البحرية لكسر الحصار، وانخراط شخصيات سياسية وفنانين ورياضيين ومن مختلف المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية في نقد الاحتلال والمطالبة بتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني، وكان للجامعات خاصة النخبوية منها حضور هام في هذه الحركة.

تنوعت خلفيات المشاركين في الحراك الرافض لحرب الإبادة، لكن جزء مهم منهم تبنى شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وطالب بإنهاء الحالة الصهيونية التي تتمظهر في دولة "إسرائيل" بالكامل، وأعلنت دعمها للمقاومة الفلسطينية المسلحة، ورفعت صور رموزها في الساحات والمنتديات العامة.

على إثر هذا الحراك اندفعت دول خاصة في أوروبا نحو الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967، رغم أن الواقع الذي خلقته السياسات الاستعمارية الإسرائيلية، في الضفة الغربية والقدس، وتدمير غزة، يقول إن حل الدولتين أصبح خارج التاريخ وغير صالح، وهو توجه قد يقرأ في سياق محاولة هذه القوى للالتفاف على الحراك العالمي والغضب بين جماهيرها من التواطؤ مع دولة الاحتلال، ومحاولة حرمان حركة المقاومة الفلسطينية من تحقيق إنجازات سياسية خلال الحرب.

تحديات استثمار الحالة

هذه العودة إلى حالة من البدايات أو الانحلال من دفع القضية نحو نسق متكامل عبر سياسات تعددت عبر العقود الماضية يقف أمام تحديات كبيرة تخلقها دولة الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية والحالة السياسية الفلسطينية والعربية:

  • تعمل حكومة الاحتلال والولايات المتحدة على منع الفلسطينيين من الاستفادة من حالة التضامن الدولية والحراك الداعم للقضية عبر خطوات مختلفة بعضها له علاقة بالخطاب الموجه للشعوب الذي يعمل على نفي حالة الإبادة في غزة، وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى تهديد الدول والهجوم على أي طرف يتضامن مع فلسطين، ومحاولة الالتفاف على أي خطوة سياسية أو قانونية تحاول محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين أو تحقق بعض الحقوق للشعب الفلسطيني.

  • تحاول دولة الاحتلال العودة إلى فرض احتلال كامل على الشعب الفلسطيني في كل مكان لكن دون أن تتحمل المسؤولية المترتبة على الاحتلال، عبر السعي لخلق أجسام سياسية تابعة لها تدير حياة الفلسطينيين في المعازل المحاصرة التي خلقتها، في الأراضي الفلسطينية، مع استمرار الاستيطان وسرقة الأرض والعدوان.

  • يواجه الفلسطينيين معضلة أنهم بعد هذه الحالة من التضامن معهم أن القيادة الرسمية للسلطة ما زالت مصممة على الخطاب القديم حول التسوية وحل الدولتين وغير قادرة على تقديم خطاب يليق بشعب يقع تحت احتلال عسكري إبادي إجرامي ويقدم قضيتهم بصيغة واضحة ومباشرة بعيداً عن المشاريع السياسية والصفقات على أنها قضية تحرر كامل لشعب يتعرض لحرب إبادة.

  • غياب مشاريع متكاملة فلسطينياً لاستغلال حركة التضامن العالمي مع فلسطين يحرم الشعب الفلسطيني من ضمان تحويل الحالة إلى نسق دائم وطويل يحققون من خلاله بقاء القضية الفلسطينية حاضرة في كل الحراكات الثورية والاجتماعية التحررية في العالم.

  • تدفع فلسطين ثمناً أيضاً من الحالة العربية والإسلامية التي تحكمها أنظمة لا يمانع بعضها في عقد صفقات سياسية على حساب الحقوق الفلسطينية ويعادي جزء منها المقاومة ولم يقدم منذ بداية حرب الإبادة خطوات فعلية للتصدي لدولة الاحتلال وإجبارها على وقف عدوانها الذي توسع للمنطقة ولم يعد يخفي نواياه عن إقامة "إسرائيل الكبرى" على الأراضي العربية.