مجدّداً، تقف الحقيقة عارية أمام العرب الرسميين، الذين أنكروها أو أغمضوا عيونهم في لحظاتٍ سابقةٍ رافضين الاعتراف بها، لكنها هذه المرّة جاءت مدعومةً بكلّ ما لديها من أدلةِ إثباتٍ لا تقبل الشك وعربدت على أرض العاصمة القطرية الدوحة.
تصرُخ الحقيقة في وجه العرب، وتُلامس وجوههم وتسفك دماءهم، بعدما وصلت إليهم محمولة على 15 طائرة مقاتلة عبرت أجواء عربية، وألقت حمولتها من القتل والدمار على عاصمة عربية، هي الأولى في تبنّي مسارات المفاوضات والوساطة الدبلوماسية في ما خصّ الحرب على الشعب الفلسطيني.
تقول تفجيرات الدوحة الحقيقة المجرّدة؛ إنّ عاصمة عربية أخرى تُضاف إلى بنك أهداف الكيان الصهيوني، وهي ليست عاصمة عربية، بل عاصمة الوساطة الأولى التي استضافت وفوداً أمنية إسرائيلية عدّة، من الأجهزة التي خطّطت وشاركت في تنفيذ العدوان على قطر أمس، والذي استهدف قيادات المقاومة الفلسطينية التي اجتمعت للبحث بإيجابية في مقترح البيت الأبيض لوقف القتال، وهو المقترح الذي يلبي كلّ رغبات تل أبيب.
هو عدوانٌ على قطر، قبل أن يكون استهدافاً لضيوفها من القيادات الفلسطينية، استباحة أخرى لدولة عربية بعد قائمة طويلة من الدول العربية التي تسكن العقل الصهيوني، باعتبارها امتداداتٍ لمشروع إسرائيل الكبرى، سورية ولبنان والأردن ومصر (محور صلاح الدين). وبعيداً عن طول الطوق، استباحت تونس قبل يومين بالاعتداء على واحدةٍ من سفن أسطول الصمود في ميناء تونسي، لتقول للجميع بوضوح إنّ يدها سوف تطاول كلّ مدينة عربية، في الزمان والمكان اللذيْن تختارُهما تل أبيب، ومن دون أدنى قلق من ردٍّ عربي على اعتداءاتها.
هو عدوان، كذلك، على الوساطة، فكرةً ومفهوماً وآليةً، تقول به تل أبيب، وراعيتها واشنطن، بوضوح شديد إنّ الواسطة في عقيدتها ليست سوى أكمنة وفخاخ معلوماتية وسياسية لاصطياد أعدائها، وتضع كلّ الأطراف أمام الحقيقة المؤكّدة، إنّه لا دولة عربية في منأى عن اليد الصهيونية الطولى، كلّ العرب أعداء في الوعي الإسرائيلي العام، يلتقي في ذلك اليمين الديني الصهيوني، ممثّلاً في نتنياهو وحكومته، واليسار الصهيوني الذي لا يقلّ كراهية للعرب، ممثّلاً في زعيم المعارضة، يئير لبيد، الذي أسرع إلى تهنئة سلاح الجو الصهيوني على مهمّته الإجرامية.
في المحصّلة، يمكن القول إنّه قيادات وفد المقاومة في المفاوضات نجت، ومات مشروع الوساطة الذي بحّت الأصوات التي تقول إنه يجري، في ظلّ استهانة الاحتلال بكلّ شيء، بما في ذلك عملية الوساطة نفسها، وماتت كذلك أوهام التطبيع والتعايش مع مجموعة من الكلاب المسعورة التي تستبيح كلّ مكان في الوطن العربي، مهما كان عمق التطبيع بينها وبين هذا البلد العربي أو ذاك، فالكلّ أهداف مشروعة للإجرام، والحال كذلك ليس من قبيل المبالغة في التشاؤم أن يقال إنّ الضربة الإسرائيلية المقبلة قد تكون في مصر، الدولة الأولى في مسيرة التطبيع السياسي والاقتصادي، والتي أعلنت انتقال قادة حركة الجهاد الإسلامي للإقامة في القاهرة، إذ ما الذي يمنع عدواً مسكوناً بعقيدة استباحة أيّ مكان من دون اعتبار لقانون دولي أو علاقات ثنائية؟
الأمر المؤكّد الذي يرفض العرب الاعتراف به أنّ كل مدينة عربية، في عقول نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، وحتى المعارضة الصهيونية، هي غزّة مُحتملة، تلك عقيدتهم التي لم تعد مخبّأة تحت أقنعة التطبيع والسلام الزائف، بل صارت جدول أعمال مُعلناً ويجري تنفيذه على الأرض، بمشاركة واشنطن وتل أبيب، كما في العدوان الأحدث على قطر، ومن ثم يبقى استسلام العرب لفكرة اختلاف الرؤى وتعارض الإرادات بين رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، والرئيس الأميركي دونالد ترامب، من أشكال الانتحار السياسي والوجودي، كما أنّ افتراض أنّ ترامب يمكن أن يكون صانع سلام، أو وسيطاً بين ضدّين هو بحدّ ذاته نوع الخداع، إذ تتراكم شواهد الامتزاج الكامل بين أهداف واشنطن وغايات تل أبيب يوماً بعد يوم، لفرض السيطرة الإسرائيلية على المنطقة، والتصرّف في الشرق الأوسط بوصفه قطعة أرض خالية، مملوكة لنتنياهو، وقد حان الوقت لرسم خرائطها وتأطير حدودها.