في أعقاب انقلاب الاحتلال على اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة خلال مارس الماضي، قاد الاحتلال مشهدًا بالدم والنار ضد المقاومة في القطاع وحاضنتها الشعبية؛ سعى من خلاله إلى تخيير أصحاب الأرض بين الاستسلام والفناء طواعيةً أو الإبادة بالقتل والتجويع وممارسة كل أنواع الإرهاب بحق صغارهم قبل كبارهم، وأطبق عليهم حلقة النار بفرض آلية ووسيلة قتل جديدة تتمثل في نصب فخاخ "مساعدات" أمريكية، تزامنت مع حملة تحشيد غير مسبوقة لإطلاق عملية برية تغذي خيالات متوهَّمة لدى "سموتريتش-بن غفير" في السيطرة والاحتلال الدائمين لمساحات واسعة من قطاع غزة، كخطوة على طريق إبادة أهله وتهجير من يتبقى منهم لاحقًا في ممرات موت إلى المنافي في بقاع الأرض.
وفي ظل هذا الزخم العدواني غير المسبوق أطلق جيش الاحتلال عمليته البرية "مركبات جدعون" مستعينًا بحيل نفسية وإعلامية صاحبت الإعلان عنها، تهدف في جوهرها لتحقيق اهتزازات وتصدعات إستراتيجية في الموقف السياسي والميداني في قطاع غزة، ومتزامنة مع تفعيل أوراق داخلية من مثل تجنيد عصابات إجرامية داخلية تتكامل ميدانيًا مع المهام الوظيفية لجيش الاحتلال وتتصدّر لتنفيذ بعض "المهام القذرة" لتقليل هامش الخطر على تحرك جنود الاحتلال، وفي ظل هذا المشهد الذي استُحكمت كل حلقاته وقفت المقاومة في عين هذه العاصفة، وأعلنت تصديها لتلك المركبات، بحجارة أصحاب الحق "حجارة داود" وبدأت قذفها بيد صلبة لا ترتجف من خوف ولا تتردد من ضعف يقين.
رمزية الاسم
وللاسم دلالته ورمزيته العميقة المتصلة بواقع المقاومة والاحتلال في حرب الاجتثاث والتطهير التي يخوضها الأخير ضد شعب ومقاومة لا يتسلحان إلا بقوة الحق وما تيسر لهم من أسباب القوة المادية، "داود" اسم برز في تاريخ المواجهة الحديثة، بعد أن أطلقه جيش الاحتلال لأول مرة على إحدى طبقات منظومته الدفاعية للتصدي للصواريخ متوسطة المدى وسماها "مقلاع داود"، في دلالة لا تعبر إلا عن اعتلال نفسي غريب يتلبس هذا الكيان المتسلح بأحدث منظومات السلاح وأكثرها فتكًا وقوة مع تصويره لنفسه كيانًا ضعيفًا يحاول "الدفاع" عن نفسه ويحمي حق اغتصابه لأرض سرقها وقتل أهلها وأكثر فيها فسادًا وطغيانًا.
وفي التأصيل الإسلامي لمفهوم الاسم ودلالته يقول الدكتور في أصول الفقه والسياسة الشرعية محمود النفار: "المقاومة الفلسطينية هي الأجدر بمقلاع داود"، فداود عليه السلام إذ يرمي بالمقلاع حجارته كان طفلاً يحمي قومه وينشد الصلاح، ولذا قرن الله تعالى بين قتل داود لجالوت بالمقلاع ودفع الفساد في الأرض، أما جيش الاحتلال فهو قاتل الأطفال، ومريد الفساد في الأرض، لذا كان فضل الله تعالى علينا عظيماً بهذه المقاومة التي تدفعه وتكافحه، وداود عليه السلام كان في قلة خذلتها الآلاف وتركتها للموت كما تظنّ، والمقاومة الفلسطينية كذلك خذلها أكثر من مليار من المسلمين ومليارات من شعوب الأرض، وأما جيش الاحتلال فهو الكثرة الكاثرة فكان قول جيش طالوت المؤمن: "فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة".
فهنا قاتلت المقاومة بحجارة داود واجترحت من هذا الواقع والمشهد -الذي لا يظن من يراقبه جيدًا إلا الهلاك والموت للفئة القليلة المحاصرة- معادلة جديدة من دماء وآليات جيش "جالوت"، إذ تسلحت المقاومة بـ "بصيرة يعقوب، وتأويل يوسف، وعصا موسى، وفصاحة هارون، ومقلاع داود، ومحراب زكريا، وشهادة يحيى، ونجاة عيسى عليهم السلام".
عبقرية الميدان
وجهت "حجارة داود" ضربة إستراتيجية في أسس انطلاق عمليات الاحتلال الأخيرة في القطاع وأهدافه في "السيطرة الدائمة، وتقليل الخسائر في صفوف الجنود، وخلق مجموعات من داخل بيئة القطاع تواجه المقاومة"، بشكل أفقد صانع القرار لدى الاحتلال قناعته في القدرة على تحقيق أي من الأهداف الكبرى داخل القطاع عسكريًا، وأدخله في حالة "هذيان" من جدوى القتال ضمن حلقة مفرغة لا طائل منها سوى المزيد من الغرق في الرمال المتحركة، ونسوق فيما يأتي أبرز مرتكزات عملية "حجارة داود" وملامحها:
- أولًا: تفكيك وهم السيطرة: نفذت المقاومة سلسلة متصلة من العمليات في شمال قطاع غزة "كسر السيف" وجنوبه "حجارة داود" على مقربة كبيرة من الخط الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 48، ضمن نطاق الشريط الذي روّج الاحتلال له طيلة عامين بأنه سيبقى مسيطرًا عليه خلال الحرب وبعد انتهائها، وتميزت تلك العمليات بجرأة لافتة تمثلت في التقرب والاشتباك المباشر مع دوريات الاحتلال في تلك المناطق ولا سيما في خانيونس بعد ملاحقة المقاومين ومحاولتهم فتح ناقلة جند خلال كمين استهدف خط الإمداد لجيش الاحتلال في منطقة الزنة بخانيونس (14 يونيو 2025) -كُشف النقاب لاحقًا أن الناقلة المستهدفة كانت تقل اثنين من قادة جيش الاحتلال في فرقة غزة-.
- ثانيًا: تعميق الخسائر: عمدت المقاومة في سلسلة عملياتها لتحقيق أكبر خسارة بشرية ممكنة في صفوف ضباط وجنود جيش الاحتلال، باعتبار ذلك أهم وسيلة لمنع إدامة واقع الحرب من طرف الاحتلال على قطاع غزة، فناورت مجموعات المقاومة تقدمًا وتراجعًا مع اجتياحات الاحتلال الأخيرة، بهدف رصد مكامن الراحة والخلل في صفوف قوات الاحتلال التي يمكن من خلال النفاذ لحصد أكبر قدر ممكن في عديد القوات وعُدتها، وبما يخدم الهدف الأول في منع السيطرة الآمنة على أي بقعة جغرافية داخل قطاع غزة، ولفرض واقع على الاحتلال مفاده بأنه قد يكون قادرًا على التوغل إلى أي منطقة من شمال القطاع إلى جنوبه، لكنه حتمًا لن يبقى آمنًا في أي بقعة طال الزمان أم قصر.
- ثالثًا: تحييد العناصر "ابنة البيئة": استهدفت المقاومة تزامنًا مع عمليات "حجارة داود" بشكل مباشر أدوات الاحتلال المبتكرة حديثًا في بيئة القطاع ممن سمّتهم بـ "المستعربين"، وضيّقت هامش تأثير تلك الأدوات إذ عملت المقاومة بشكل مدروس على منع توسعها وتكرار النموذج في مناطق أخرى، ما أدى لانحصارها في منطقة محددة ارتباطًا بتواجد جيش الاحتلال في محيطها، وقد ساهم الوعي والمناعة المجتمعية العالية في داخل القطاع إلى حد كبير في منع توسع هذه الوسيلة، وصولًا لإفقاد الاحتلال جدوى ورقته المبتكرة حديثًا والتي علّق عليها "الشاباك" آمالاً في إمكانية تشكيل ملامح قوة بديلة داخل القطاع يكون لها دور في ترتيبات متوهمة لليوم الذي يلي الحرب على غزة.
وقد حمل التوثيق الإعلامي للعمليات المنفذة ضمن "حجارة داود" مضامين تتجاوز حدود ومجريات الحرب إلى اتصال بتاريخ الفاتحين الأوائل في تاريخنا الإسلامي، وتخترق حالة النشوة التي حققها جيش الاحتلال على بعض جبهات القتال خلال الأشهر الأخيرة متسلحًا بالتكنولوجيا الحديثة، وتختزل ثوانٍ معدودة في توثيق ملاحقة المدرعة المصفحة بالسلاح الخفيف جذرًا في تاريخ مواجهة داود لجيش جالوت الحديث حتى النصر المبين!