هزَّت عملية طوفان الأقصى النظرية الأمنية الإسرائيلية، ووجهت ضربة قاسية للمبادئ التي تقوم عليها، وتحديدًا "الثالوث الأمني" الذي ظلّ قائمًا طوال 75 عامًا، ويتمثّل في مبادئ:
- الردع.
- الإنذار المبكر.
- الحسم (النصر السريع المطلق).
فقد كان الفشل ذريعًا في "ارتداع" حماس، ولم تنجح معها سياسات الحروب السابقة قصيرة المدى، ولا محاولات "التهدئة" تحت التهديد، ولا الاستيعاب.
وفشل نظام الإنذار المبكر في توقّع عملية طوفان الأقصى، بالرغم من قوتها واتساعها وتغطيتها ضِعف مساحة قطاع غزة في الداخل الفلسطيني المحتل 1948، والخسائر الضخمة التي أحدثتها في ساعات قليلة (نحو 1200 قتيل و250 أسيرًا)، وكشفت العملية عن "فشل متعدد الطبقات" في المنظومة الأمنية. ثم إن العدوان على غزة فشل تمامًا في حسم المعركة بسرعة، والتي ما زالت فصولها مستمرة بعد أكثر من 600 يوم من القتال، وصمود المقاومة.
المراجعات على النظرية الأمنية قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023
كانت النظرية الأمنية الإسرائيلية قد خضعت للعديد من المراجعات و"التحسينات"، ولكن مبادئها ظلت سارية معتمدة. كما ظلّ عدد من القواعد والخطوط الإستراتيجية الأمنية حاضرًا مثل: "تجييش الشعب"، وضمان التفوق والهيمنة، والضربات الاستباقية، والحدود الآمنة والمجال الحيوي، ونقل المعركة إلى أرض العدو، وضمان دعم القوى الكبرى، مع تطوير الاعتماد على الذات.
وراعت بعض المراجعات في العقدين الأوَّلين من القرن الـ 21 عددًا من التغيرات كاختلاف أهمية الجغرافيا، وخطر الصواريخ والطائرات المسيرة، والأمن السيبراني، وحالة الثورات واللااستقرار في البيئة العربية، و"تهديد" النمو السكاني الفلسطيني في الداخل، وتهديدات نزع الشرعية، ومشاكل الوضع الداخلي الإسرائيلي، وتراجع نوعية المقاتل الإسرائيلي، وعدم الرغبة في تحمل أعباء الحرب.
وفي سنة 2015 أضيف إلى "الثالوث الأمني" مبدأ رابع هو مبدأ "الدفاع" ليعكس الاهتمام بالدفاع الصاروخي والقبة الحديدية، وبالسياج الحدودي وحمايته.
بينما تبنت القيادة الإسرائيلية في فترة "الربيع العربي" إستراتيجية "انتظر، وحافظ على القلعة" في متابعة الأحداث التي عصفت بالمنطقة، غير أنها عملت بشكل فعَّال "تحت الطاولة"، وعبر الوكلاء والحلفاء لإسقاط هذا "الربيع".
التغيرات في النظرية الأمنية بعد عملية طوفان الأقصى
إذا ما استخلصنا السلوك السياسي والعسكري والأمني الإسرائيلي، وإذا ما تابعنا حصيلة مراكز التفكير في نقد النظرية الأمنية الإسرائيلية وتطويرها، وخصوصًا معهد مسجاف للأمن القومي (المقرب من الحكومة)، ومعهد دراسات الأمن القومي INSS، ومعهد القدس للإستراتيجية والأمن JISS، فلعلنا (مع إدراكنا لوجود درجات من التباين والاختلاف فيما بينها)، نجمل التغيرات أو الاتجاهات العامة للتغيير فيما يلي:
1- الانتقال من الردع التقليدي إلى الردع الهجومي الاحترازي: وهو يعني تحويل "إسرائيل" إلى دولة ذات طبيعة هجومية دائمة، وتدير حدودها ومجالها الحيوي (في البيئة الإستراتيجية المحيطة) باستخدام القوة؛ والتخلي عن "الردع بالتهديد" إلى "الردع بالتدمير"، والتخلي عن "شراء الهدوء" و"إدارة الصراع" في إطار الاحتواء التقليدي مقابل التوسع في مفهوم الأمن ليشمل "المنع"؛ أي منع الخصوم والأعداء من شنّ الهجمات؛ وبالتالي، التركيز على مفهوم "الإخصاء" Emasculation، حيث يتم شلُّ قدرات الآخرين ابتداء، قبل أن تتحقق لديهم الإمكانات لتشكيل خطر على دولة الاحتلال.
وهذا يعني أن "إسرائيل" تسعى في تحقيق هيمنتها على المنطقة إلى الانتقال من "الهيمنة الناعمة" إلى "الهيمنة الخشنة" المكشوفة، والتي لا تعبأ بظهور وجهها العدواني، ولا بانتهاك سيادة البلدان المجاورة، ولا حتى بـ"إحراج" أو إذلال شركائها ووكلائها في دول التطبيع.
2- تعزيز إستراتيجية الإنذار المبكر، من خلال إعادة تقييم شاملة للاستخبارات (الموساد، وأمان، والشين بيت)، وتطوير نماذج إنذار جديدة، تأخذ في الاعتبار المنظمات والجهات غير الحكومية، وتحديد المؤشرات التي تدل على مخاطر أمنية.
كما ظهرت ضرورة إعادة التركيز على الاستخبارات والقدرات البشرية Human Intelligence، حيث أثبتت الاستخبارات التقنية قصورها، بعد أن تزايد الاعتماد عليها بكثافة في السنوات الماضية، وضرورة تحقيق توازن بين التكنولوجيا، بما في ذلك (الأمن السيبراني، وأدوات الذكاء الاصطناعي)، وبين الأداء البشري.
3- تعزيز قدرات الجيش الإسرائيلي البشرية والمادية، وزيادة قدرته على الانتشار، وخوض الحرب على عدة جبهات في وقت واحد: إذ كانت الإستراتيجية العسكرية تعتمد على وجود جيش محدود (نحو 170 ألفًا) يتميز بالكفاءة والمرونة، مع خفض تكاليفه قدر الإمكان، ووجود احتياط كبير (نحو 470 ألفًا) قادر على الانضمام السريع والفعال متى اقتضت الحاجة.
بينما أصبح الاتجاه بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول يدفع نحو جيش كبير وميزانية كبيرة، ونحو التوسع في التجنيد حتى في الأوساط التي كان يتم التغاضي عنها كاليهود المتدينين "الحريديم"؛ وذلك لتلبية احتياجات الجيش في التوسع والهيمنة، والحروب الطويلة، وتعدُّد الجبهات. وبهذا يتم إحداث تفعيل أكبر لفكرة "تجييش الشعب" أو "الجيش الذي له دولة"!!
4- الاتجاه للجاهزية نحو الحرب طويلة الأمد، في ضوء فشل مبدأ "الحسم" السريع، الذي كان ركنًا في "الثالوث الأمني" منذ تأسيس الكيان.
وكان الجيش الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 قد خفف في تعامله مع التنظيمات وفصائل المقاومة، ولأسباب عملية، من فكرة "النصر المطلق" إلى فكرة "النصر الكافي"، بما يضمن فترات من "الهدوء" والاحتواء المانع للتهديد قدر الإمكان.
غير أن معركة طوفان الأقصى وطول أمدها، وقوة أداء المقاومة، دفعت باتجاه الحرب طويلة الأمد، لكنها أعادت في الوقت نفسه فكرة الحسم أو النصر المطلق بغض النظر عن المدى الزمني.
5- تعزيز الضربات الاستباقية، وتوسيع دائرة الاغتيال المستهدف؛ والتساهل في الضوابط والاعتبارات السياسية والأمنية والأخلاقية التي تمنع ذلك.
6- تقوية النفوذ والهيمنة الإقليمية، من خلال فرض خريطة أمنية جديدة للمنطقة، وفرض مناطق عازلة (كما في لبنان وسوريا…)، وتفعيل التحالفات مع دول التطبيع لتنفيذ أجندات أمنية وفق المعايير الإسرائيلية؛ والظهور بشكل مكشوف كـ"شرطي للمنطقة"، وكـ"عصا غليظة" فوق الرؤوس.
وكان نتنياهو قد كرر مرات عديدة فكرة الهيمنة و"تغيير وجه الشرق الأوسط"، وتحقيق "الازدهار عبر القوة".
إذ ترى القيادة الإسرائيلية أن حسم الملف الفلسطيني والقضاء على قوى المقاومة، لا يتحققان إلا بتغيير الواقع الأمني في المنطقة، وخنق البيئة التي تتنفس منها المقاومة؛ لضمان الأمن المستقبلي للأجيال الصهيونية في فلسطين المحتلة.
7- التركيز على الأمن الداخلي: من خلال السعي لبناء "حصانة وطنية"، والاستعداد للصدمات المستقبلية، وتعبئة المجتمع الصهيوني وقدرته على التكيُّف، خصوصًا في ضوء تزايد مخاطر الضربات الصاروخية والاختراق الحدودي؛ وفي ضوء تزايد الرغبات في الهجرة المعاكسة لدى المجتمع الاستيطاني اليهودي بسبب الظروف الأمنية.
ويندرج تحت ذلك أيضًا مواجهة "التهديد السكاني الفلسطيني" بعد أن تجاوزت أعدادُ الفلسطينيين أعدادَ اليهود في فلسطين التاريخية؛ وبالتالي إدراج ملفات الضم والتهجير وإيجاد البيئات الطاردة لهم في الأجندة الإسرائيلية.
8- المزاوجة بين الاعتماد على الذات والاعتماد على الحلفاء: فبالرغم من التطور الكبير للصناعات العسكرية الإسرائيلية، وصعودها ضمن أعلى مصدري الأسلحة وتقنيات التجسس في العالم، وبالرغم من الجهود المتواصلة للوصول إلى فكرة "الاعتماد على الذات"، وتحقيق تفوق كبير على الدول في البيئة الإستراتيجية المحيطة، فإن هذا المفهوم اهتز في معركة طوفان الأقصى؛ حيث ثبت أنه غير كافٍ لتحقيق الانتصار.
كما أثبت الحاجة الماسة لوجود حلفاء إستراتيجيين كبار دائمين كالولايات المتحدة، التي ظهرت الحاجة إليها في التزويد بالأسلحة النوعية، وفي مواجهة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، ومواجهة إيران، وفي الدفاعات المضادة للصواريخ، وفي توفير الغطاء السياسي والأمني والإعلامي الدولي، وممارسة الضغوط على دول المنطقة.
9- تحقيق الردع النفسي و"كي الوعي"، وذلك بشكله الأقسى والأعنف، من خلال ما حصل في غزة من مجازر وإبادة جماعية وتهجير وتجويع وتدمير، ليتكرس في الوعي الجمعي الخوفُ من الاحتلال الإسرائيلي وعدم اللجوء للمقاومة.
أثبت مفهوم "السياج الذكي" المتعلق بالدفاعات الحدودية وحماية المستوطنات، أنه لم يكن كافيًا، وبالتالي يجب تعزيز الدفاعات البشرية والمادية، و"الحرس الوطني" للتعامل مع المخاطر المحتملة.
انعكاسات التغير في النظرية الأمنية على البيئة الإقليمية
بناء على ما سبق، فإن التغيرات في النظرية الأمنية ستنعكس على شكل سلوك وسياسات إسرائيلية أكثر عدوانية في البيئة الإقليمية، تتمثل فيما يلي:
- توسيع نطاق العمل العسكري والأمني الإسرائيلي إقليميًا، ومحاولة فرض حالة هيمنة مكشوفة في منطقة الشرق الأوسط.
- الانتقاص من مفهوم السيادة لدى عدد من دول المنطقة، مثل سوريا ولبنان.
- مزيد من الضغوط على الأنظمة لتنفيذ أجندات أمنية والالتزام بالمعايير الإسرائيلية، بحجة محاربة الإرهاب، وبالتالي مزيد من قمع الحريات، وقمع الاتجاهات الداعمة للمقاومة ولفلسطين، وتيارات "الإسلام السياسي" والقوى الوطنية والقومية المعادية للمشروع الصهيوني، ومواجهة مشاريع النهضة والوحدة.
والضغط على أنظمة المنطقة باتجاه "أمننة" الحياة المدنية، من خلال تعميم النموذج الإسرائيلي، بحيث يُعامَل كل تهديد سياسي أو شعبي كـ"قضية أمنية"، بما يؤدي إلى تآكل حقوق الإنسان، وتَغوُّل أجهزة المخابرات.
في المقابل، فإن السلوك الإسرائيلي المتعجرف قد يؤدي إلى:
- أن تلجأ بعض الدول الكبيرة في المنطقة لحماية أمنها القومي، والدخول في سباق تسلُّح مع "إسرائيل".
- غير أن الجانب الأهم، هو أن هذا السلوك الإسرائيلي المتعجرف، عندما يتعامل مع بيئة عربية وإسلامية ويحاول فرض عصاه الغليظة المباشرة على شعوب عريقة تعتز بدينها وتراثها وتاريخها وهويتها الحضارية؛ فهو إنما يقوم فعليًا بتوسيع دائرة الصراع ودائرة التحدي ضده، وتوسيع دائرة السخط والغضب في البيئة الإستراتيجية، ويتسبب بتسريع قيام "ربيع عربي" جديد يكون الخاسر الأكبر فيه هو الاحتلال الإسرائيلي نفسه، والأنظمة الحليفة معه.
- سيعاني الجانب الإسرائيلي في سبيل تحقيق نظريته، من حالة فرط التمدد Overextension، وهو ما قد يتسبب له بحالة إنهاك تفوق طاقاته وإمكاناته، وهو أحد المؤشرات المهمة على تراجع وسقوط الدول عبر التاريخ.
وأخيرًا، فثمة فجوة كبيرة بين ما يريده الاحتلال الإسرائيلي، وبين ما يستطيع تنفيذه على الأرض، وما زالت الأمة وشعوبها تتمتع بإمكانات مذخورة هائلة، قادرة على مواجهة المشروع الصهيوني ودحره.